من يراهم من بعيد لا يشعر بأنهم يختلفون كثيراً عن شبان الميليشيات الذين تمتلئ بهم الأحياء فجأة، لولا طفولتهم وهشاشة أسلحتهم. يصنعون من العيد معارك تعكس ثقافة الحرب في بيئتهم. «يمتشقون» أسلحة رخيصة في غالب الأحيان، تأتي بأشكال مختلفة من الصين بأسعار تبدأ بخمسة آلاف وتصل إلى مئة ألف ليرة للقطعة الواحدة. في شوارع المدن والقرى اللبنانية، بدأت حروب الصغار
محمد محسن
أصبح العيد مؤذياً. شوارع المدينة، الضواحي وحتى القرى، باتت تشبه ساحات القتال. ليس العيد مرآةً للحرب. لكن ما يحمله الأطفال في أياديهم يشير إلى العكس. بنادق و«متفجرات صغيرة» تبدو نتيجة طبيعية لتفشّي ثقافة العنف. في السابق كانت عيديّتهم مرادفاً لصحن اللفت البنفسجي، ولدقائق يمتطون خلالها مرجوحة، أو ثمناً لمسدس «كبسون» في أعنف الحالات. تفنّن التجار في سرقة العيد. علّقوا فرحه بفوهة بندقية، لا تترك آثارها على الجسد فقط. صار العيد عند الأطفال، مناسبةً لإعادة إنتاج الحروب. ما يجمعه الأطفال من عيدياتهم صار ينفق لشراء بندقية بلاستيكية، قد تنمو أضلاعها وتتسلح بالحديد مستقبلاً. من يعلم؟ اسألوا هؤلاء الأطفال. انظروا إلى المشهد المستفحل في الضواحي: العيد في بلدنا، «أخطر» من الحروب.
كان علي (12 عاماً) منحنياً على الطريق العام، باحثاً عن شيء ما. لم تره سائقة السيارة المرتفعة، لكن حين لامست السيارة جسده النحيل تداركت السيدة الأمر وشدّت مكابح السيارة. طار علي قليلاً من الضربة التي خفّفت المكابح ثقلها، لكن الحادث لم يردعه عن إعادة التدقيق في الأرض مجدداً. عاد الفتى إلى انحناءته الأولى، وراح يجمع الخرز البلاستيكي المنتشر على الطرق. هي حبوب صغيرة وملوّنة، لا يستطيع شراءها من الدكان، بعدما أنفق «عيديته» لشراء بندقية مخصصّة لإطلاق هذه الحبوب. بعد دقائق، جمع ما تيّسر من خرز صغير ملأ به مخزن سلاحه، وأعلن بداية اللعبة... أو المعركة.
يصعب الحديث مع الأطفال المسلحين قبل وقف إطلاق... الخرز
انقسم الأطفال في الشارع إلى «ميلشيات الخرز». «أنا العكيد أبو شهاب»، يقول طفل، فيجيبه آخر: «أنا معتز». أمّا جنود الفريق الآخر فقبلوا بدور المستعمر الفرنسي و«النمس». الأطفال سيفتحون «باب الحارة» المحاصرة ببنادقهم البلاستيكية. يظنون ما سيفعلونه عملاً بطولياً، حتى لو كانت نهايته إصابات بالجملة، بحيث يمكن اعتبار حادث السيارة مجرد أمر عابر في معارك الخرز.
من يراقب الأطفال في لعبتهم هذه يشعر بهم يتماهون مع ما يشاهدونه. لا يقتصر الأمر طبعاً على المسلسلات. في أحياء كثيرة، ينتشر الأطفال بأسلحتهم البلاستيكية بطريقة تظهر تمرّسهم في إدارة الحروب، هم الذين عاشوا حربي تموز 2006 ونهر البارد 2007، إضافة إلى الحروب الصغيرة بين مناصري الزعماء والمحازبين، وتدخل عناصر الجيش اللبناني لحلّها.
في أحد أحياء البسطة التحتا، يصعب الحديث مع الأطفال المسلحين، قبل موافقتهم على وقف إطلاق الخرز. لوهلة، تخالهم سيطلبون «هويتك». يضعون أسلحتهم المتنوعة جانباً. يؤكدون بثقة أن البنادق ليست إلا تسلية بالنسبة إليهم. ماذا عن مدن الملاهي؟ حتى المفرقعات الصغيرة، أين ذهبت؟ يطلق كامل عبيد طلقةً من «الكلشنكوف»، ويجيب: «بواريد الخرز هي موضة هذه الأعياد». أما المفرقعات القوية فهي «للزعران والمزعجين مش أكثر» يقول انطلاقاً من خبرته المكتسبة عبر المكوث لأوقات طويلة في الشارع. لمعاركهم قوانين «تكفل سلامتهم». سنّ المحاربون الصغار بعض هذه القوانين، كعدم الاستعانة بذخيرة «غريبة» كتلك التي تنفجر وتطرش الألوان. فيما فرض الأهل قانوناً إضافياً «لا تطلقوا الخرز على منطقة الوجه، وإلا ممنوع اللعب بهذه البنادق» كما نبّه والد أطفاله الثلاثة. وتحت هذه «الشرعة» تطبّق مجموعة الأطفال في البسطة وأحياء أخرى، لعبة «counter strike» الإلكترونية. يقف فريق «الإرهابيين» قرب أبواب المحال وفي الزوايا. أما فريق الشرطة، فيستعمل السيارات دشماً للحماية. المرور بين الفريقين خطير من دون شك. تتوقف اللعبة فجأة. «ما اتفقنا إنو ما نقوّص عالوجه يا كلب» يصرخ أحد المحاربين بوجه ابن جيرانه. أصيب الطفل «تحت عينو بشوي، ألله لطف. انتبهو وكملو يلا». تستمر المعركة.
في الضاحية الجنوبية، وتحديداً في حي المريجة، لا مانع عند حسين كوراني (11 عاماً) من دفع العيدية ثمناً لـ«M18 مع ضو ليزر ورشق». ثمن البندقية السوداء، باهظ على طفل. دفع حسين 50 ألف ليرة من عيديته، ليتشبّه بالمقاومين. ثياب عيده عسكرية. في معركته مع أطفال الحي «أخذت دور الشهيد عماد مغنية»، أما «الجيش» المقابل فقد أخذ عناصره دور «إسرائيل».
حين ينجلي «غبار» معاركهم، يعود الأطفال فريقاً واحداً. يتناقشون في أمور من وحي حروبهم البريئة. يتحدّث هيثم عن عدم إصابته أحداً في عينه. أمّا خضر فمعجب بطريقة التفاف فريقه على «العدو» وتصويب الخرز على ظهورهم. هناك، حين تنكشف القمصان عن الأجساد الطرية، يجب ألا تكون صاحب نظر حاد، لتميّز آثار الإصابات. بقع تتدرّج بين الأحمر والأزرق، تزيد أو تخفّ حدتها تبعاً لقرب مكان إطلاق «الخرزة».
في دكّانه، يعدّد البائع أصناف البنادق التي يبيعها. لا يبدو أن شعوراً بالخطأ يساوره، بالنسبة إليه إن لم يبع هو هذه البنادق فسيأكل رزقها تاجر غيره. وخلال الحديث معه، يفاجئك البائع عندما يبلغك بأن عناصر من القوى الأمنية «حضرت للتأكّد من أن الأسلحة التي نبيعها بلاستيكية». وحين وجدوها كذلك، غادر أصحاب العين الساهرة على أمن المواطن: البواريد مزيّفة ــــ حتى الساعة ــــ والحمد لله.