في 1/9/2009، وردّاً على الاتهامات العالية النبرة التي وجّهها اللواء جميل السيد إلى عدد من القضاة النافذين بشأن التحقيق في جريمة اغتيال الحريري وبونات البنزين، أصدر مجلس القضاء الأعلى بياناً مقتضباً يكاد يكون البيان الأقلّ حدّة في تاريخه. فقد تفادى المجلس أي جواب أو التزام بالتحقيق بشأن موضوع هذه الاتهامات، بحجة أنها سياسية وأن القضاء المثقل بجراحه الناتجة منها «يترفّع» عن الرد
نزار صاغية *
جاء بيان مجلس القضاء الأعلى الذي صدر أوّل هذا الشهر للردّ على اتّهامات اللواء جميل السيّد، مغايراً تماماً، في ظاهره على الأقلّ، لمجموعة من البيانات القضائية الصادرة في الأمس القريب، والتي دعا بعضها إلى إعادة العمل بالحبس الاحتياطي في جرائم المطبوعات صوناً لهيبة القضاء. وما يريده هذا المقال هو تحديداً الإحاطة بهذا البيان في إطار مقارنة نقدية مع البيانات الأخرى، سعياً إلى فهم مواقف المجلس وأهدافه وصولاً إلى تقويمها.

1ــــ في قراءة مقارنة لأهداف البيانات القضائية ومبرّراتها:

في هذا الصدد، وإلى جانب البيان المذكور أعلاه، سأستعيد بعض البيانات القضائية الصادرة أخيراً، وتحديداً بياني تموز 2008 الصادرين على خلفية حلقة تشهيرية لبرنامج «الفساد» ولتصريحات النائب نبيل نقولا، وبيان أيار 2009 الصادر على خلفية الإفراج عن الضباط الأربعة بقرار عن قاضي الإجراءات التمهيدية في المحكمة الخاصة لمحاكمة قتلة رفيق الحريري. وما سأحاول إثباته هنا هو أنه رغم التباين الكبير بين البيانات من حيث نبرتها وبرامجها المعلنة، فإنها ترمي في الواقع إلى تحقيق الهدف نفسه، وهو إخراج الاتهامات الموجهة إلى قضاة نافذين من حيّز التخاطب العام إعمالاً لقاعدة الصمت. وهنا، أشدد على عبارة «قضاة نافذين» ما دامت هذه البيانات جاءت كلها رداً على اتهامات موجهة إلى أحدهم أو إلى بعض منهم، فيما بدا المجلس بالمقابل غير مبال إزاء التهجم ضد قضاة آخرين كتهجم وزارة العدل ضد القاضي فوزي خميس (17/10/2007) أو تهجم النائب فؤاد السعد ضد القاضي جوني قزي (30/6/2009). وهذا الأمر إنما يشير إلى أن هيبة القضاء تكاد تكون مرادفاً بنظر المجلس لهيبة القضاة النافذين فيه، وهو إشارة لا بد أن نعود إليها في سياق العرض لاحقاً.
أ‌ــــ بيانا 14 و17 تموز 2008: خطاب الهيبة التي لا تمس:
في هذين البيانين، وخلافاً لما جاء في بيان أيلول 2009 لجهة الترفع عن الإساءة، بدا النفس العقابيّ طاغياً. فمجلس القضاء الأعلى سارع في البيان الأول إلى دعوة القضاة إلى جمعية عمومية بلهجة مفعمة بالغضب والعنفوان، وفي خطوة تستحضر كل ما للقضاء من رهبة في مواجهة إساءات لا يمكن السكوت عنها.

هيبة القضاء تكاد تكون مرادفاً بنظر المجلس لهيبة القضاة النافذين فيه

وقد تجلى هذا النفس في حيثيات ومقررات عدة أبرزها الآتية: فمن جهة أولى، كُلّفت النيابة العامة التمييزية اتخاذ الإجراءات والملاحقات الفورية بحق كل من تناول ويتناول القضاء كسلطة أو القاضي بشخصه في ملفات ودعاوى فصل أو ينظر فيها، مهما علا شأنه ومهما تكون وظيفته أو الحصانة التي يتمتع بها. ومن جهة ثانية، سعى المجلس إلى تفنيد الحصانات التي يستفيد منها النواب والمحامون والإعلاميون بدرجة أو بأخرى، شارحاً مبرراتها على نحو يوجب تجاوزها في حالات التعرض للقضاء. لا بل بلغ النفس العقابي أوجه حين طالب البيانان وزير العدل بتعديل قانون المطبوعات، ولا سيما ما يتصل بحظر التوقيف الاحتياطي في جرائم المطبوعات! وقد بدا القضاة بذلك وكأنهم يحبذون اتخاذ إجراءات رادعة فورية دون انتظار انتهاء المحاكمة، وأنهم تالياً على أتم الاستعداد للتضحية دون تردد بما يعد أحد أهم مكاسب الحريات العامة في لبنان على مذبح هيبة القضاء التي «قرروا ألا يفرطوا بها». ولم تكتفِ الجمعية العمومية للقضاة بهذا القدر بل أعلنت، من باب إظهار الجدية والتصميم، إضراباً ليوم واحد بهدف التحذير من اتخاذ إجراءات جذرية أكثر حدة في حال عدم التجاوب مع مطالبهم.
واللافت في بيان مجلس القضاء الأعلى هو تبرير الملاحقات في هذا المجال بموجب التحفظ الذي يخضع له القاضي. فكيف يكون الإعلام حراً في توجيه التهم إليه، فيما هو عاجز عن الرد، وتالياً عن ممارسة الدفاع عن النفس؟ واللافت أكثر أن المجلس لم يجد حرجاً في التوسع في تأويل هذا الموجب، وخلافاً للتوجهات القانونية والفقهية الدولية والوطنية في هذا الإطار، على نحو يشمل منع القاضي من الرد على الاتهامات الموجهة إليه، أياً كانت ومهما بلغت خطورتها، وذلك دعماً لمشروعية مطلبه. وقد بدا في ذلك وكأنه يؤثر التخلي عن حرية القضاة في التعبير على اقتبال النقاش العام بشأن أعمال القضاء. ومن هذه الزاوية، بدا البيان أشبه بدعوة احتفالية إلى تعميم التحفظ والصمت عملاً بشعار «لنتحفّظ جميعاً» وتالياً إلى بناء نظام قانوني جديد مبدأه التسليم بقمع حرية القاضي في التعبير دون مناقشة ومنتهاه التسليم بقمع الحرية ككل!
ب‌ ــــ بيان 5 أيار 2009: خطاب المحاسبة داخل المؤسّسات القضائية والنقد الذاتي:
في بيان 5 أيار 2009، بدت الأشياء مختلفة إلى حد كبير. فتحت وقع الخطاب العام الداعي إلى محاسبة المسؤولين عن توقيف الضباط الأربعة لما يقارب أربع سنوات على أساس أدلة تفتقر إلى المصداقية بشهادة قاضي الإجراءات التمهيدية في محكمة الحريري وعلى مقربة من انتخابات نيابية من شأنها قلب موازين الحكم، جاء بيان المجلس دفاعياً يوحي بأن المسألة تحتمل قراءات مختلفة ويدعو إلى التهدئة والتريّث في الحكم وإلى منحه الثقة والوقت اللازمين لتصحيح الأخطاء المثارة ما دام هو، لا الإعلام، المرجع الصالح للقيام بذلك. وقد بدا من خلال ذلك وكأنه يسعى إلى امتصاص النقمة ضد بعض القضاة واستعادة زمام المبادرة عن طريق إغداق الفرضيات والوعود، تمهيداً، هنا أيضاً، لإخراج الشوائب القضائية مجدداً من التخاطب العام.
وفي هذا الإطار، تعهد المجلس بتحريك مشاريع القوانين الآيلة إلى تعزيز استقلالية القضاء مرحباً بأي اقتراح في هذا المجال، موحياً أن أساس المشكلة تكمن ليس في القضاة الذين ينتقصون في ظل القوانين الراهنة إلى ضمانات الاستقلالية، بل في القوانين. كما أعلن استعداده «لتحمل المسؤولية في مواجهة أي خلل في الممارسات القضائية، ولإعمال قواعد المحاسبة التي يمكن أن تطال أي قاض مخل بمناسبة النظر في أي قضية من القضايا ولمتابعة الأمور المطروحة حتى نهايتها»، شرط أن تجري هذه المحاسبة «في إطار أحكام الدستور ومبادئ حقوق الإنسان والقوانين المرعية وضمن المؤسسات القضائية القائمة»، أي، بلغة المجلس، بعيداً عن الاتهامات الإعلامية وضمن أقصى معايير السرية. والواقع أن قوة هذا التعهد تبقى موضع تساؤل، ولا سيما أن البيان أشار على بعد فقرات إلى وجوب تفعيل هيئة التفتيش القضائي التي لا يزال عدد من مناصبها، ومنها رئاستها، شاغراً. وفي الاتجاه نفسه، دعا البيان القضاة وربما للمرة الأولى إلى إعمال النقد الذاتي، على ألا يمس ذلك بمسلمات كرامة القضاء ومهابته وحصانته أي على نحو يؤول هنا أيضاً إلى تغليب الصمت.
وتالياً، ورغم التحول في خطاب المجلس في اتجاه الإقرار باحتمال الخطأ (الله أكبر!) وبضرورة إعمال النقد الذاتي والمحاسبة حتى خواتيمها، فإن هذا التحول بدا عند التدقيق وكأنه وليد ظروف اللحظة وموازين القوى المتحكمة بها، أكثر مما هو تعبير عن رؤية قضائية جديدة. وخير دليل على ذلك أن المجلس لم يقدم حتى اللحظة أي إجابة بشأن الوقائع المثارة آنذاك، وأن بيان أيلول الصادر بعد خمسة أشهر جاء خلواً من أي تعهد مماثل. كما أن تعهد المجلس بتفعيل مشاريع القوانين تعزيزاً للاستقلالية، استحال في بيان أيلول، مجرد تعهد بنشر ثقافة استقلالية القاضي، وعلى نحو يصوّر المسألة على أنها مسألة اجتماعية بحتة تعالج، على طريقة المنظمات غير الحكومية، عبر التوعية، دونما حاجة لأي ضمانات قانونية! وهذا ما يسمح لي بالمضي قدماً في تحليل هذا البيان.
ج ــــ بيان 1 أيلول: خطاب الضحية التي تترفّع:
كما سبقت الإشارة إليه، صدر هذا البيان على خلفية اتهامات جدّ حادة أوردها جميل السيّد في مؤتمر صحافي حظي بتغطية إعلامية واسعة، دعا فيه مجدداً إلى محاسبة المسؤولين عن إطالة أمد توقيفه مع الإقرار عرضاً بأن استخبارات الجيش كانت تقدم هبات بنزين لأحد كبار القضاة تماماً كالهبة التي كانت مديرية الأمن العام تقدمها للقاضي الياس عيد. وخلافاً لمواقفه السابقة ولكثير من التوقعات، خلا بيان المجلس هذه المرة من أي إشارة إلى ملاحقة التعرض للقضاء، وأيضاً من أي التزام بالتحقيق والمحاسبة كما سبق بيانه وحل الترفع على الجراح محل أي اعتبار آخر.
فما عدا ما بدا؟ وما سر تحول المجلس على هذا النحو؟ هنا نجد في البيان حجتين:
الأولى، ومفادها أن الاتهامات الموجهة إلى القضاء سياسية بطبيعتها، ولا صلة لها بالوظيفة القضائية، مما يجعل أي رد عليها بمثابة خروج عن هذه الوظيفة. فثمة من يتناول القضاء بسهولة «كلما هبت عاصفة أو نشأت أزمة لا يد للقضاء فيها» وهو تالياً مدعو «لإقصاء القضاء عن كل شقاق أو مصلحة أو منزع خاص». والواقع أن هذه الحجة لا تقنع أحداً، وهي منطقياً مجرد محاولة للتنصّل من المسؤولية. فبمعزل عن صدقية السيّد أو نواياه أو التزاماته السياسية، فإن الأمور التي أثارها هي بالدرجة الأولى حقوقية شخصية (احتجاز لسنوات أربع دون دليل) ومهنية محض (اتهام قضاة بالتلاعب بالأدلة وقبول هبات من أجهزة أمنية). والدليل القاطع على ذلك هو أن مجلس القضاء الأعلى كان قد أقر سابقاً بوضوح كلي مسؤوليته عن التدقيق في هذه المسائل: وهذا ما نقرأه في بيان 5 أيار 2009 بشأن احتجاز الضباط الأربعة حين وعد بالمحاسبة في حال وجود شوائب! وهذا أيضاً ما نقرأه بشأن محروقات البنزين حين كلّف رئيسه آنذاك (13 أيلول 2007) بكشف ملابسات بونات البنزين والاتصال بوزارتي الدفاع والداخلية للوقوف على حقيقة الأمر وأسبابه.
أما الحجة الثانية، فهي «تجنب الانزلاق إلى سجال»، أي إلى اتهامات واتهامات مضادة، وذلك صوناً للقضاء الذي هو حامي الحقوق والحريات ولثقة الناس به وللدولة. والواقع أن هذه الحجة هي مجموعة من الطلاسم المشفرة، التي يقتضي تفكيكها في سياق نقضها.
فكيف نفسر أن «تجنّب الانزلاق إلى سجال» بات بمنطق المجلس طريقاً لصون هيبة القضاء وثقة الناس فيه، فيما المجلس كان قد اعتمد لهذه الغاية، في الأمس القريب، أساليب مناقضة تماماً كالضرب بيد من حديد وإعمال المحاسبة حتى خواتيمها؟ والجواب المنطقي هو أن هذا الأمر يمثّل في ظل الظروف وموازين القوى الحاضرة الطريق الأسلم، وربما الأوحد، لتجنب مزيد من اتهامات يعجز المجلس هنا أيضاً عن التعامل معها! فكأنما المجلس اختار الترفع إزاء من صفع عدداً محدداً من القضاة على خدودهم اليمنى، ليس لعدم اكتراثه بذلك أو بسبب نكران الذات بل تجنباً لمزيد من الصفعات على خدودهم اليسرى، بعدما رأى أن مجمل خياراته السابقة تعجز في الظروف الحاضرة عن تحقيق ذلك. ومن هذه الزاوية، يصبح ادعاء الترفع رغم مكابرة المجلس (فهو أصر على القول إنه يترفع وهو قادر) بمثابة إعلان عجز قبل أي شيء آخر.
ثم ما هي الثقة والهيبة التي يسعى المجلس إلى صونها؟ فبإمكان مجلس القضاء تجاهل انتقادات نظرية أو عامة أو انتقادات هامشية صادرة هنا وهنالك، ولكن ما معنى أن يتجاهل اتهامات محددة باتت تحتل حيّزاً هامّاً في الخطاب العام لقضاة نافذين معيّنين بأشخاصهم بحجة الترفع؟ أفلا يمثّل ذلك استخفافاً بأصول الديموقراطية ومبادئها وتلاعباً بالرأي العام الذي من حقه أن يعلم وأن يحاسب كل من يحتاج إلى ثقته؟ بل أي مصداقية للادعاء العام أو للقول إن القضاء حام للحريات والحقوق إذا اتهم رأس الادعاء العام بأنه تلاعب بأدلة، وكبار القضاة بأنهم تلقوا أو يتلقون بونات بنزين (هبات) من الأجهزة الأمنية ــــ وهي الأجهزة الأكثر تورطاً تقليدياً في التعدي على الحقوق والحريات ــــ دون أن يتكبد أي جهاز قضائي أو حتى أي قاض عناء نفي ذلك أو توضيحه؟ ولعل أخطر ما ورد في هذا البيان، هو إطلاق فرضية مفادها أن الاتهامات الموجهة إلى بعض القضاة النافذين تطال القضاء برمته. هكذا بكل بساطة وبمعزل عن أي مساءلة أو تحقيق. ألا يظهر المجلس إذّاك وكأنه يجازف بكرامة القضاء ومعها كرامة جميع القضاة الشرفاء ذوداً عن كرامة عدد من القضاة يتعرضون لنقد قد يكون ضمن النقد المباح؟ بل ألا يظهر المجلس في اختياره هذا الممشى أكثر تعرضاً للقضاء ومجازفة بمصالحه ومصداقيته ممن يكيلون الاتهامات، عن حق أو باطل، إليه؟
وبنتيجة ذلك، ساغ القول هنا أيضاً، بأن ادعاء الترفع صوناً لثقة الناس بالقضاء هو مجرد حجة خطابية مؤداها الحد من التداول الإعلامي بشأن الانتقادات الموجهة إلى قضاة نافذين، ولو على حساب القضاء، إعمالاً لقاعدة الصمت في ظل الموازين الحاضرة، كل ذلك تحت شعارات نبيلة لا تصمد أمام أي جدل منطقي. هذا ما أمكنني قوله بشأن أهداف المجلس ومبرراته في هذا المجال. بقي أن ننقد هذه الأهداف.

2 ـــ في المساوئ المتّصلة بإخراج الشوائب القضائيّة من حيّز التخاطب العام:

ومن أبرز هذه المساوئ:
أولاً، الاستخفاف بالرأي العام، وفق ما بيّنته أعلاه، وأكاد أقول إن هذا الاستخفاف يقارب في بعض جوانبه الاستبداد (فأنا معصوم لأني قوي) والاستعلاء (أنا أترفع عن الاتهامات الموجهة إليّ لا لسبب إلا لأنه ليس من مصلحتي الإجابة عنها) والاستغباء (عليك أن تمنحني ثقة عمياء لأن قيام الدولة وتالياً مصلحتك يتطلب ذلك).
ثانياً، حصر مرجعية الفصل بين الأسود والأبيض، في ما يتصل بمسؤوليات القضاة، بالمؤسسات القضائية المختصة، على نحو يقارب أحياناً نفي أي مرجعية للقيام بذلك، كما هي الحال في ظل شغور مناصب عدة في هيئة التفتيش القضائي. وفي مطلق الأحوال، نفي أي

أيّ مصداقيّة للادعاء العام إذا اتهم رأسه بالتلاعب بأدلّة، وكبار القضاة بتلقّي هبات من الأجهزة الأمنية؟

مرجعية شفافة ما دامت هذه الهيئة تعمل ضمن أصول السرية بمنأى عن أي رقابة. بالمقابل، يبدو المجلس متمسّكاً في إنكار أي مرجعية أخرى أو أقله في التقليل من شأنها: فبشأن الإعلام، يرى المجلس أن أي تخاطب إعلامي من شأنه أن يزعزع الثقة بالقضاء! فمهما بلغت الفائدة من فضح أمور معينة، فإن سيئاتها تتجاوز بكثير حسناتها، مما يبرر ملاحقتها أو بأحسن الأحوال تجاهلها والترفع. لا بل إن البيانات القضائية ذهبت أبعد من ذلك إلى حد التقليل من شأن مرجعية القضاء العادي في هذا الشأن. وهذا ما تجلّى في المطالبة بإعمال الحبس الاحتياطي بشأن جرائم المطبوعات، أي تدابير الردع الفورية دون انتظار المحاكمة، وأيضاً في سياسة الترفّع المعلن عنها أخيراً إزاء الاتهامات الموجهة إلى القضاء على نحو يحول دون عرضها على المحكمة للنظر في صحتها. لا بل إن المجلس بدا في أماكن عدة وكأنه يرفع يده باسم الهيبة تارة، وباسم الترفع طوراً، عن مسؤولياته في السهر على استقلالية القضاء وحسن أدائه.
أما ثالث مساوئ هذه السياسة، وهي لا تقل أهمية، فهي تقوم على وضع الانتقادات الموجهة ضد القضاء في سلّة واحدة، دون أي تمييز بين النقد المباح (وأبرز وجوهه النقد العلمي للقضاء كما هي حال هذا المقال والنقد المبني على فضح مخالفات للوظيفة القضائية) والنقد غير المباح (الذي هو تجن وإثارة أمور غير صحيحة). وأهم الوسائل المستخدمة لهذه الغاية هي التعامل مع أي تعرض لقاض نافذ على أنه تعرض للقضاء برمته على نحو ينفي حسن النية عن الاتهامات الموجهة إلى القضاء بمعزل عن مدى صحتها.
وهذا التصرف خاطئ للأسباب الآتية:
أولاً، أنه يردع المراقب ذا النيات الحسنة أكثر مما يردع سيّئي النية الذين تمثّل الملاحقة ضدهم في أسوأ الحالات جزءاً من حساباتهم.
ثانياً، أنه يعزز مكانة القاضي المرتكب على حساب القاضي النزيه، ما دام الكشف عن الحقائق يدين الأول ويعزز مكانة الثاني، فيما المحافظة على ضبابية الحقيقة ونسبيتها يضعهما في الخانة نفسها. بل من الطبيعي أن يولد إبقاء أخطاء القضاة خارج النقاش العام لدى الرأي العام شكوكاً مشروعة، بل تعاطفاً إزاء أي اتهام، وميلاً شبه طبيعي إلى تصديقه.
ثالثاً، أنه يؤدي عملياً إلى تحويل كرامة القضاء ككل وكرامة القضاة الشرفاء إلى درع يحتمي به القاضي المرتكب، وتنهال عليه كل السهام، فيما كرامة القضاء لا تحفظ منطقياً إلا بمحاسبة قاض مماثل.
رابعاً، أنه يستولد على الجانب الآخر خطاباً لا يقل تطرفاً مفاده أن نقد القضاء كله مباح، بمعزل عن صحته. وهذا ما لمّحت إليه مثلاً الصحافية غادة عيد (برنامج الفساد) التي تساءلت على الهواء إذا لم يكن لها الحق بإعطاء المنبر لمن يود عرض مشكلته قبلما تطالب بإعطاء الصحافي حصانة أسوة بالنائب والمحامي، في موقف يناقض تماماً موقف مجلس القضاء الأعلى في تموز 2008.
وهذا أيضاً ما لمّح إليه عدد من البيانات الصادرة عن مثقفين دعماً لأحدهم في مواجهة الملاحقة القضائية. في ظل واقع كهذا، قد لا نكون على مسافة بعيدة من زمن يترفّع فيه كل ذي شأن.
* محامٍ وباحث في القانون