strong>هشام نفاع*بعد مؤتمر أنابوليس بأسبوع (كانون الأول/ ديسمبر 2007)، نشرت سلطات الاحتلال الإسرائيلية مناقصات لبناء 747 مبنى في مستوطنة «هار حوماه» المقامة على أراضي جبل أبو غنيم قرب القدس. وسبقتها في العام نفسه مناقصات لبناء 46 مبنى استيطانياً آخر في القدس الشرقية. في العام التالي، 2008، ارتفع عدد المباني الاستيطانية المطروحة للبناء إلى 1961 مبنى. ولم يختلف الأمر خلال العام الجاري 2009: هناك قرارات ببناء 200 مبنى لتوسيع النواة الاستيطانية المقامة في رأس العمود، إقامة 250 مبنى استيطانياً في الشيخ جراح، و20 مبنى في فندق شيبرد، وبناء مجمع تجاري كبير في وادي الجوز، حيث تمت السيطرة لهذا الغرض على 40 بيتاً عربياً في الحي. ما اختلف هو أن التوسّع الاستيطاني في القدس الشرقية ومحيطها عامي 2007 و2008 كان بقيادة الحكومة الإسرائيلية السابقة، بينما يتواصل هذا العام بقيادة الحكومة الحالية. ففي مضمار تهويد المدينة وضمّها (التي يفترض أن يكون شرقها عاصمة فلسطين) وتأبيد احتلالها، لا يختلف حكام إسرائيل السابقون ولا الحاليون. أحزابهم تُجمع وتجتمع هنا. كلهم هنا مجرمو استيطان متساوون. ولا يُقال هذا من باب «كلهم نفس الشيء» ــــ باب التعميم ــــ بل استناداً إلى قراءة المعطيات المنشورة واستيضاح السياسات خلفها. هذه المعطيات لا تحتاج لتحليل عميق، لأن الحكومات الإسرائيلية، مهما اختلفت طرابيش رؤوسها، واضحة جداً في تلك المسألة. وحتى حين يحاول قباطنة دولة الاحتلال المراوغة السياسية، مثلما يجري مقابل إدارة أوباما اليوم، فإنهم يحافظون على «شفافية» لافتة بشأن ابتلاع القدس. يقولونها بصراحة فاضحة. حتى أن رئيس حكومتها الحالي شدّد، قبل ساعات فقط من لقائه الأخير مع الرئيس المصري، على أن القدس خارج الحسابات. إذًا فرسالة إسرائيل واضحة، ويؤمَل أن يكون الاستهتار طيّها واضحاً أيضاً، مما يقتضي الخروج باستنتاجات عربية، وفلسطينية أولاً.
لكن متابعة سلوك النظام العربي تشير إلى أن درب الاستنتاجات لا يزال طويلاً وشاقاً. لأنه أصلاً درب وعر لا يلائم علية القوم! بالمقابل، ها هي الأحاديث عن التطبيع العربي ــــ الإسرائيلي (من أجل السلام لا لتسهيل حركة رأس المال طبعاً!) تكتسب المزيد من التسارع والطبيعية، أسبوعاً بعد أسبوع. ليس لأن دولة الاحتلال أبدت أية نيّات طيبة تُذكر، بل لأن الموضة السياسية السائدة في معظم الشرفات العربية العليا، تقتضي تعميق الإيمان الأعمى بعهد واشنطن ــــ أوباما. مع أن هذا الأخير سرّب أخيراً الكثير من رسائل التفهّم التخفيفية لمصالح إسرائيل في القدس، أي مصالح احتلالها.
ما يجب توضيحه هو أن الحديث الرسمي الإسرائيلي عن القدس ليس سوى غطاء لمشروع أكبر من هذه المدينة. فمفرداته الطاغية في هذا الشأن مأخوذة من عوالم الغيبيات، الدينية منها والتراثية، التي تزعم التحدث باسم مصالح اليهود في محجّتهم الدينية التاريخية، حتى بما يتجاوز التاريخ نفسه. ولكن لو كان الأمر كذلك، لما كان الجدل سيتجاوز بعض المعابد والمعالم الدينية المحدودة على مساحة مئات الدونمات التي كانت تُعرف بـ«المنطقة الحرام» حتى عام 1948. لكن القدس بالمفردات السياسية الإسرائيلية التي تُترجم وتُفرض يومياً على الأرض، تمتد على مساحة شاسعة جداً تتعدّى القدس بشرقها وغربها.
لنتمعن في الأرقام: حتى عام 1948 كانت مساحة القدس 20 ألف دونم. بعد احتلال 1967 بدأت عملية إسرائيلية مخططة لتوسيع حدود المدينة (دون أية علاقة بمزاعم الزيادة السكانية الطبيعية)، فوصلت عام 1993 (عام «أوسلو») إلى نحو 126 ألف دونم. وهي مناطق اقتطعت وصودرت من 28 قرية فلسطينية محيطة بالقدس، وتقع عليها اليوم أكبر المجمعات الاستيطانية.
هذا الإصرار على توسيع المستوطنات القائمة على أراض في الضفة الغربية، بعد ضمها إلى منطقة نفوذ «القدس الموحدة»، هو استكمال لأكبر مشاريع إسرائيل ــــ المشروع الاستيطاني. بالمقابل، نرى الخطاب العربي الرسمي متخندقاً في مربعات الشعارات، الدينية منها والقومية، ولكن من دون اعتماد على خرائط مثلاً. وهكذا يتحوّل هذا الخطاب الرسمي الذي يصول ويجول في ميادين الثرثرة الجوفاء بمفرداته العاطفيّة الممجوجة، إلى مكمّل فعليّ للتضليل الإسرائيلي المتباكي على «محجة اليهود»، ولتتحوّل المسألة عن السياسة، وتصبح كأنها صراع أديان على معالم الأديان. ويا لفرحة مؤدلجي «صدام الحضارات» الإمبرياليين! أولئك الذين اخترعوا معادلة جديدة لتفريغ الصراعات من مضمونها السياسي التحرري.
إن المشروع الاحتلالي المسمى «القدس عاصمة إسرائيل الموحدة» يضمّ كبريات المستوطنات والمجمعات الاستيطانية: مستوطنة «معليه أدوميم» شرق القدس، مستوطنة «جفعات زئيف» من الغرب، مجمع مستوطنات «بنيامين» من الشمال، مجمع «جيلو» و«غوش عتصيون» من الجنوب، «هار حوما»، «جفعات هامتوس»، و«ريخس شعفاط» والجزء الأكبر من «بسجات زئيف». هذا المشروع الاستيطاني يشطر الضفة الغربية إلى شطرين، يقطع تواصلها الجغرافي، يمنع تطورها كوحدة جغرافية ــــ سياسية متماسكة، ويسيطر على معظم مصادر المياه الجوفية فيها. أي أنه يدمّر الأرضية لإقامة دولة فلسطينية ولو في حدود 1967.
منذ مطلع سنوات الألفين سوّقت حكومات إسرائيل مشاريع الضمّ بتسميات مختلفة. كان أولها «الحفاظ على كبريات الكتل الاستيطانية»، أعقبها «تبادل الأراضي» و«التصحيحات الحدودية»، واليوم صار كل هذا يسمى «القدس الموحّدة». ولربما أن عدم النزول العربي الرسمي، والفلسطيني أولاً، عن الصهوة المريحة لرمزيّة المدينة باتجاه أرضها، وأرض قراها التي يتواصَل ابتلاعُها، هو أحد أكبر إنجازات الاحتلال الإسرائيلي في مضمار التضليل، وخصوصاً أن الأذن الأوروبية «حسّاسة» في كل ما يتعلق بالمدينة الموصوفة بالقداسة... وحين تطغى البلاغة على السياسة تضيع القضايا.
صحيح أن تصريحات السلطة الفلسطينية أخيراً عن اشتراط التفاوض بوقف الاستيطان، هامة، لكنها شبه خاوية. لأن المشروع الأكبر مستمر في القدس يومياً، وإسرائيل تعلن كل صباح أنه سيستمر. أصلاً، هناك مخططات إسرائيلية مصدّق عليها لهدم بيوت وأحياء بأكملها: جدار الفصل (أكبر مشاريع تعزيز الاستيطان) قطّع الوحدة الجغرافية والاجتماعية والحضارية للمدينة ومحيطها، جهاز التخطيط الإسرائيلي أعلن صراحة أن هدفه حتى عام 2020 هو فرض أغلبية يهودية ساحقة (بنسبة 70%) في القدس الموسّعة. لو جمعنا كل تلك النقاط معاً فلن يكون حاصلها تأبيداً للاحتلال والضم والاستيطان فحسب، بل تنفيذ ترانسفير بطيء للفلسطينيين المقدسيين أيضاً.
هذه الصورة تستدعي الخروج عن المألوف فلسطينياً وعربياً. فليتذكر المفاوض الفلسطيني، على الأقل، العِبرة التي خرج بها الراحل الكبير د. حيدر عبد الشافي بعد مسلسل مفاوضات مدريد وما تلاه: «بدون وقف الاستيطان ومع استمرار تهويد القدس، فإن المفاوضات تصبح دون قيمة حقيقية، لأنها تجري في ظل استمرار فرض الوقائع على الأرض، التي تغيّر وتمس جذرياً بقضايا التفاوض والحل النهائي». هذه العبرة تزداد أهمية مع تحوّل مشروع «القدس الموحّدة» إلى المشروع الاستيطاني الرئيسي. فهل يقرأ واضعو السياسات العرب، والفلسطينيون أولاً، تفاصيل الخرائط وإحداثياتها بدلاً من مواصلة أحاديث كالحة لن تفيد بشيء؟ فتفكيك «القدس الموحّدة» عبر وقف الاحتلال والاستيطان فيها، يستدعي أولاً تفكيك هذا المفهوم والنظر في مكوّناته السياسية لمواجهتها عملياً. أليست هذه هي السياسة في الأخير؟
* صحافي فلسطيني