منى عباس فضل*هل يجوز التغنّي بالديموقراطية البحرينية ووصفها “بالوردة الجميلة”؟ لمَ لا؟ فمن جهة كمية القوانين والمؤسسات والأجهزة الإدارية الفسيفساء التي توالدت كالفطر خلال السنوات الأخيرة، يجوز حتماً التغني، إذ لا ينكر حجم التغيير وما تمخّض عنه من دستور وبرلمان وتنظيمات، إلا متخلّف عن رصد حركة التغيير. بيد أن معضلة التوصيف تكمن في نوع الممارسة الديموقراطية ومضمونها، وما تشي به من مظاهر لا تتكافأ والحديث عن مشروع إصلاح. لماذا؟ لأمور عديدة تشهد عليها خطابات التبجيل للحياة النيابية، أو الدعوة إلى المشاركة في انتخابات 2010، أو إلى مقاطعتها، فضلاً عن السجالات الدائرة التي لم يُبتّ أمرها، كدستور 2002، ومن يحق له تمثيل السلطة التشريعية وأدواتها الرقابية وتعديل قانون الانتخاب والدوائر والتجنيس السياسي وتوزيع الثروات وضبط الميزانية وخدمات الإسكان والصحة والتعليم...إلخ. كلها بنود ملتهبة لا تزال مدرجة على الأجندة الوطنية وتتحرك كالسلحفاة في مداولات البرلمان، علاوةً عن واقع الأطراف السياسية وأدائها وعلاقتها بالحكم وغيرها من قضايا. فمن الواضح، منذ انتخابات الكويت الأخيرة، أن شهية البحرينيين متحفّزة للنقاش حول هل نشارك وكيف؟ نقاطع ولماذا؟
من يسوّغ المشاركة تتصدر خطابه الإشادة بوجود دستور ونظام سياسي مرن عكسه أداء المجلس التشريعي بغرفتيه، المعيّنة من 40 عضواً يحسبون على الحكومة، و40 منتخبين يمثلون الشيعة والسنّة. هذا الصوت بالطبع يرتفع من قعر دار الموالاة للسلطة، الذي يرى التجربة النيابية بمنظار وردي لكونها فرصة لمراكمة الخبرات،

المشاركة مرتبطة بتعديل الدستور والتخفيف من صلاحيات السلطة التشريعية

وتحقيق المغانم، وهو فرِح وتملأه الغبطة بالإشادة الخليجية والدولية بالديموقراطية التي تمارَس على الطريقة البحرينية، والبرلمان حسب رأيه صار رقماً في الخريطة البرلمانية العالمية، وله دور مؤثر وملحوظ في قضايا التنسيق، كما أن الانتخابات عكست تمثيلاً حقيقياً للناخبين، ومن يثير التشكيك في المراكز العامة، أو يطالب بتعديل القانون الانتخابي فهو يشهر سلاحه العاجز ليس إلّا. أما منطلقات من يسوّغ المشاركة في أوساط قوى المعارضة، فمختلفة. إذ إنّه يركّز على أهمية تحقيق المكاسب ومراكمة الخبرة، ويراهن على فرص الدعاية للتنظيم السياسي واستقطاب الجماهير والتمتع بالصبر المقرون بالعمل المنظم وتسجيل الحضور السياسي لإرساء تقاليد الممارسة الديموقراطية، ذلك رغم اعترافه بأن التجربة هشّة وآلياتها مهزوزة، لا تعدو مجرد ظاهرة صوتية وتناحر على الكراسي بين الإقطاعيات السياسية والطائفية.
أما الفريق المستنكف، فعبّر عنه زعيم معارض بالقول “إن المشاركة والمقاطعة خياران لاتخاذ القرار السياسي، والبرلمان الحالي ليس ما كنا نطالب بعودته، فهو شكلي غير قادر على اتخاذ قرار واحد، أو تشربع تشريع واحد لا تريده الحكومة، وكذا الأمر في المحاسبة والمراقبة، فالآليات والأدوات لا تسمحان للمجلس بممارسة دوره الرقابي، والمجلس السابق قبل 30 عاماً متقدم أكثر من الآن، فقد كان قادراًَ على المحاسبة الجدية للسلطة التنفيذية، وبحوزته أدوات تشريع حقيقية، من غير وجود مزاحمة من مجلس معيّن. لذا، فقرار المشاركة مرتبط بوضع سياسي معيّن، وقرار المقاطعة مرتبط بقرار سياسي آخر. لا يمكن الدخول في لعبة سياسية خاسرة لأن مفاتيح اللعبة بيد الآخر والملعب كله بحوزته، وحتى الحكم والصفارة والإنذارات، فكيف تكون المعارضة لاعباً سياسياً وشريكاً في اللعب؟ وعليه، فإن المجلس الحالي هو مجلس شورى يندرج تحت مسمّى مجلس وطني. لا ينبغي التحدث عن المشاركة والمقاطعة في ظل هذه المعطيات، بل يجب الإصرار على المقاطعة وعدم النظر إلى المشاركة حتى لو بحجة دخول غيرنا، والقرار والخيارات تتخذ بناءً على تنظير وتشخيص دقيقين من جميع جهاتهما وحيثياتهما، وإذا كان الظرف والمصلحة يحتمان المشاركة شاركنا، وإن كانا يقودان إلى المقاطعة تحقّقاً للمصلحة، قاطعنا. وعُدّ النواب الحاليّون مجرد أرقام لا يستطيعون إيقاف قانون تريده السلطة أن يمر، والكل يقر بمدى هيمنة السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية لما يمنحها الدستور من صلاحيات”.
في حقيقة الأمر، لا تزال المشاركة في انتخابات 2010 أو مقاطعتها مرتبطة بأصل الإشكالية، وهي تعديل الدستور والتخفيف من صلاحيات السلطة التشريعية لمصلحة السلطة التنفيذية، كما أنها مرتبطة بالواقع السياسي وطبيعته التناحرية الطائفية وما يمتلكه المواطن من وعي سياسي لممارسة حقوقه. فإذا سُلم جدلاً بأن المشاركة هي الحلقة الرابطة بين المواطن ومجتمعه، وبأنها الأداة التي يحقق من خلالها ذاته ومطالبه ويؤثر في القرار السياسي، فلا بد أن تتمثل مشاركته بسلوك سياسي فعلي يتجه نحو التأثير في القرار السياسي. هنا للقارئ أن يتصور كيف سيكون هذا السلوك، وقد ثبت ارتباطه بالمرجعيات الدينية والمذهبية والفئوية ذات المصالح الشخصية. علاوة على ذلك، فممارسة الديموقراطية الحقيقية ترتبط بسيادة قيم المساواة وإقرار الحاكمين بحق المحكومين بحقوقهم الدستورية والقانونية.
استناداً إلى ما سبق، المشاركة التي جرت منذ 2002 لم تكن في الأساس باتفاق وتراضٍ بين الأطراف الرسمية والشعبية، وخصوصاً بعد إقرار دستور 2002 بصورة منفردة، وبرغم الاحتجاجات التي أدت إلى انقسام الشارع وضعضعة قواه السياسية. فمنهم من يئس وشارك على مضض، ومنهم من قاطع. كذلك ما أفرزته ممارسة النخب السياسية في المجلس الوطني بغرفتيه، وما عبّرت عنه أحياناً من علاقة ذيلية بين السلطة التشريعية والتنفيذية في ظل ضعف الجمعيات السياسية وتهميش دورها واعتماد المال السياسي قوةً للتأثير فيها، وفي بعض الشخصيات السياسية. كل ذلك أخلّ بموازين التجربة، فالمال كما هو معلوم وسيلة من وسائل الكسب والإقناع في الحقل السياسي، وهو مرتبط بالفساد. يضاف إلى ذلك التدخل اليومي للإعلام الرسمي والموالي، بمختلف الطرق والأساليب، للترويج لمحاسن تجربة انتخابية مبتورة، وتتّسم بعلل متأصلة في تمييع أدوات الرقابة والمحاسبة، وتسهم بالتالي في إعادة إنتاج واقع سياسي هزيل، اصطبغ بالطائفية والمصالح الفئوية والشخصية، مما جعل من المجلس مجلس خدمات أكثر منه مجلس تشريع. الآن، وبرغم الموبقات، فلو نُظر إلى المشاركة الانتخابية المقبلة بواقعية شديدة، بصفتها خياراً ووجهاً من أوجه الممارسة الديموقراطية التي تسهم في إزالة بعض من عبء القهر والعنف لكنها لا تلغيه، وإن الصراعات والخلافات (كما يشير “إيليا حريق” بشأن أسباب المعيشة والنفوذ والعصبيات) صعبة الحل لكنها من صميم اللعبة السياسية، وبالتالي فالديموقراطية كغيرها من الأنظمة لا تحل المشاكل كلياً، إنما تصحح مسارها بنفسها، وإن من هم في السلطة فمن الطبيعي أن يفرضوا أفضلياتهم على غيرهم، بل ويجرّدوهم من حق الاختيار، وإن السياسة تفعل في حقل المتناقضات والمصالح المتضاربة... إذ قبلنا بكل ذلك، فلا بد من القول أيضاً إنه، وحتى لا تتحول انتخابات 2010 إلى وسيلة تطبيع مع واقع الأمر السياسي وإعادة إنتاجه العبثي (فساد/ نزاعات طائفية)، يستوجب التذكير بأن حديث “المشاركة/ المقاطعة” لا يزال يدور بين الرحى دون أي مبادرات رسمية تبشّر بتعديل شروط اللعبة السياسية (تعديل قانون الانتخاب والدوائر وتوزيعها وعددها)، ولا سيما أن القانون يفرض القيود، ويحدد مشاركة أو عدم مشاركة حديثي التجنيس في التصويت، وكذلك قوات الجيش والشرطة والأمن، إضافةً إلى عدم الاستجابة لإلغاء المراكز العامة وإيقاف التجنيس السياسي محط الخلاف والتذمّر من قوى المعارضة، وعدم الاطلاع المبكر على قوائم الناخبين ونشر أسماء أعضاء مراكز التصويت. فهذه العناصر مجتمعة تمثّل الغطاء القانوني للانتخابات. فإن بقيت على حالها، يبقى السؤال يتكرّر: نشارك أم نقاطع... هل هناك بديل أفضل؟
* باحثة بحرينية