كريستوفر م. دايفيدسون*لقد تكبّدت دبي، التي عُدّت طويلاً مونتي كارلو الشرق الأوسط، إحدى أقسى تبعات أزمة الائتمان. وبات نموذج الإمارة الصغيرة الاقتصادي، الذي يبدو مبتكراً، فريسة التفكّك اليوم تلو الآخر، بعدما جرى التباهي به في الآونة الأخيرة كمنارة للحضارة في منطقة نامية، من دون أن تلوح في الأفق نهاية ما لسيل الأنباء السيئة غير المنقطع. فقد اصطدم قطاع الإعمار بتوقف مروّع، وتكشّف الدين السيادي الكبير فيما تُعدّ الدعاوى القضائية، وينخفض عدد السكان، إذ إن كثراً من الذين انتقلوا إلى دبي سعياً وراء حياة أفضل قد فقدوا وظائفهم.
لزيادة الطين بلّة، اتخذت سلطات دبي، التي كانت تستعد للمعركة، عدة خطوات أعادت الأمور إلى الوراء فيما كانت المدينة تُخلي نفسها وعمليات استرداد الملكيات تتسارع. فقد فرضت سياسات حمائية، ومُنعت الشخصيات الصريحة من الكلام، واعتُمدت سياسة إعلامية أشبه بسياسات القرون الوسطى. وإذ تراجعت ثقة المستثمرين ولاح في الأفق خطر سداد الديون، لم يبقَ للقيادة المذلولة خيارات كثيرة غير اللجوء إلى الجيران الأغنى منها. وعلى الرغم من وصول المساعدة، فإنها لم تمثّل بتاتاً دواءً عاماً كفيلاً بمعالجة مجموعة المشاكل التي تعانيها الإمارة، وأضحى مستقبل دبي على المحك الآن.
مع اشتداد أزمة الائتمان في الغرب في أيلول/ سبتمبر من عام 2008، بدت دبي كأنها نأت بنفسها عن التسمّم الذي كان يسري في الأنظمة الاقتصادية المتقدمة في العالم. وادّعت مجلة «نيويورك ماغازين» أن المصرفيّين كانوا يقصدون فجأةً مدينة الذهب الجديدة بالعشرات. وتذمر البرلمانيون الكويتيون الغاضبون لأن دبي، حتى من دون نفط، كانت تبلي بلاءً أفضل مما يفعله اقتصادهم. وهُلِّل للشيخ محمد إذ عُدّ حاكماً ذا رؤية عبر العالم العربي، لا بل أكثر من ذلك بأشواط في بعض الحالات. من جهة دبي، كانت الرسالة أيضاً واضحة مدوّية: فقد كانت دبي تلتفّ على التسونامي العالمية. وفي أوائل تشرين الأول/ أوكتوبر، أُعلنت خطط لبناء برج يبلغ ارتفاعه كيلومتراً واحداً، ورُوِّج بقوة لمشاريع جديدة هدفت إلى إنشاء مناطق سكنية حديثة بحجم بيروت. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر، أُقيم حفل بلغت كلفته 15 مليون دولار على مسرح في فندق أتلانتيس الجديد، استمرت فيه الألعاب النارية ساعات بطولها فيما سُجِّل ظهور ضيوف من مشاهير هوليوود. وبذلك بدا إطلاق المجمّع، الذي تبلغ كلفة ليلته 800 دولار، إشارة إلى أن دبي كانت تقاوم الاتجاه السائد بعناد، وتقاومه بثقة وأسلوب مميّزَين.
لكن خلف التبجّح كان العفن قد توطّد؛ فقد راح الاهتمام بالعقارات يتراجع تراجعاً لافتاً مع صرف المستثمرين الأجانب انتباههم إلى المشاكل في أعمالهم طبعاً، واعترف العملاء بأن العمليات تباطأت للغاية. وبدأت حجوزات الفنادق بالترنّح، إذ التفت السيّاح إلى وجهات سفر أقلّ كلفة. والأخطر أن مصارف دبي ومؤسسات القروض العقارية أخذت تكافح لتجد تسليفات في السوق العالمي. لقد جفّت القروض، واختفى المضاربون، وضربت دبي الموجة الأولى من إعادة بيع الملكيات، إذ سعى المغتربون المتوترون إلى النجاة بأنفسهم. ثُقبت فقّاعة الثقة، وراحت بورصة دبي تهوي بعدما فقدت أسعار الأسهم الفضلى المدعومة حكومياً أكثر من 80 بالمئة من قيمتها. فأُعلنت أول عملية تسريح كبرى للموظفين، بالآلاف، وكان لا بدّ من دمج أكبر مؤسستين للقروض العقارية ضمن سلطة فدرالية جديدة.
انطلقت عاصفة هوجاء من التصريحات المنكرة للحقائق قادتها السلطات، وانضم إليها كل الذين أصبحوا متسلّمي رهونات في نموذج دبي، بمن فيهم العديد من المغتربين الذين وظّفوا مدّخرات حياتهم بكاملها في العقارات. انضم إليهم كذلك أكاديميون وصحافيون غير متبصّرين. لم يتنبّأ أحدٌ بالأزمة، وقلة وجدت موطن ضعف واحداً في نموذج دبي. لا بل شدّد البعض على أن دبي كانت أكثر الأمكنة أماناً ليثبت فيها المرء في خضم الأزمة العالمية، فيما ادّعى آخرون أن أساسات الإمارة سليمة تماماً.
لكن الأدلة الدامغة تراكمت مع انقضاء الأسابيع. ففي أواخر عام 2008، انتصبت مئات الرافعات مشلولة الحركة فوق مشاريع غير منتهية البناء، فيما جلست حشود العمال عاطلة من العمل في خيمها، وأُعلن باقتضاب تعليق مجموعة من المشاريع المهمة جداً. وعندما شعرت الحكومة بأن الضوء المسلّط عليها يزداد توهجاً، أعلنت أن جبلاً عملاقاً من الديون يتراكم عليها ـــــ حوالى 80 مليار دولار، والجزء الأكبر من المبلغ مستحق لإعادة خدمة الدين في السنوات القليلة المقبلة.
وأُعلن أيضاً، بغية تبديد المخاوف، أن صندوق الثروة السيادية الذي تمتلكه دبي ـــــ حوالى 85 مليار دولار ـــــ سيكون كافياً لتغطية كل الأمور. ولكن قلة اختارت أن تصدّق: فوكالات التصنيف الائتماني الكبرى خفضت مراتب مصارف دبي، وبحلول شهر شباط/ فبراير 2009، ارتفعت قيمة مقايضة الائتمان في حالة التقصير ـــــ كلفة التأمين على التخلف عن سداد الدين الذي تبيعه شركات دبي ـــــ لتبلغ مستويات التكلفة التي سجلتها إيسلندا، وهي أشهر ضحية للأزمة المالية العالمية. استمر المغتربون والمستثمرون والسيّاح في التعبير عن استيائهم من الوضع بمغادرة البلاد، فيما كانت السيارات وغيرها من السلع المبيعة بقروض استملاك تُترك، وآلاف تأشيرات الخروج تُصدر يومياً، والفنادق تخوض حرب أسعار.
وما يثير القلق أن الانهيار الاقتصادي كان يحدث على خلفية سيئة من الفساد والفاشستية والحمائية، خلفية لم تنفكّ تزداد سوءاً. فمع سعي المستثمرين إلى الهروب، كُشفت أخيراً مخططات الهرم التي كانت تتعمّر من دون أن يُدقَّق فيها. فكتب صحافيون أجانب عن مقاولي بناء مغتربين أُوقفوا من دون تهمة، وأضحت حتى شركات يدعمها أفراد مهمّون من العائلة الحاكمة تحت المجهر. فبدأت المقالات العمودية في الصحف المحلية تُسلَّم إلى مسؤول الشرطة الذي كذّب ادعاءات الصحافيين الأجانب، وحذّر أرباب العمل من تسريح العمال الوطنيّين في الإمارات العربية المتحدة. ونُشر إحصاء وحيد أوحد ليثبت أن عدد التأشيرات الممنوحة يفوق تلك الملغاة، ولكنه غفل عن ذكر عدد تلك التي كانت تُجدَّد فحسب. وادّعى آخرون وجود نظرية مؤامرة دولية لنسف نجاح دبي.
بيد أن ما يفوق كل هذا من تدابير يصعب إصلاح الأضرار الناجمة عنها هو المسارعة إلى اعتماد تشريع جديد جعل حماية العمال الوطنيين في وظائفهم إجراءً رسمياً، حتى في القطاع الخاص، ما حرم أرباب العمل المرونة التي كانوا يحتاجون إليها للخروج سالمين من حلقة الركود. كل هذا، إضافةً إلى تمريرٍ أُحسِن توقيته لمسودة قانون إعلامي يمنع فعلياً توجيه انتقادات قاسية إلى الاقتصاد، ويشجّع الرقابة الذاتية، أطلقت مجموعة جديدة من المؤشرات إلى أن تحرير الاقتصاد في دبي كان على الأرجح حالة عابرة تبدّدت عندما بانت الصعوبات.
بحلول نهاية شباط/ فبراير 2009، كانت دبي قد أفلست. كافحت من أجل توفير خدمة تجديد الدين لتلك السنة، ووُجب على بورصة دبي إعادة تمويل 3.8 مليار من الدين. تبجّحت الصحافة المحلية بصفقة أُجريت في اللحظة الأخيرة على اعتبار أنها تمثّل دليلاً على قدرة دبي على الاستمرار، ولكن سرعان ما اتضح أنها لم تُمنَح إلّا سلفة بقيمة 2.5 مليار دولار في السوق العالمي، وأن مؤسسات أخرى في دبي اضطرت إلى التدخل من أجل التعويض عن النقص. وسرت من جديد شائعات مفادها أن خياراً واحداً بقي متاحاً للإمارة، وهو طلب المساعدة من الإمارة المجاورة لها الغنية بالنفط، أبو ظبي، مهما كانت هذه الخطوة مرّة. حتى تلك المرحلة، كانت أبو ظبي قد بقيت بعيدة عن مشاكل دبي، إذ ضخت السيولة فقط في مؤسسات فدرالية في تشرين الثاني/ نوفمبر، وكفلت المصارف المتمركزة في أبو ظبي في شباط/ فبراير فحسب.
في 25 شباط/ فبراير، أصدرت إدارة في حكومة دبي مذكّرة تقول إن مصرف الإمارات العربية المتحدة المركزي في دبي، المدعوم من أبو ظبي، قد اكتتب بسندات بقيمة 10 مليار دولار تستحق السداد بعد خمس سنوات. ومثّلت هذه السندات، التي بلغ معدل فائدتها 4 بالمئة، حبل سلامة بالنسبة إلى دبي، إذ إن احتمال نيل الإمارة مثل هذه السلفة من مكان آخر كان ضئيلاً. وعلى الرغم من أن ذلك لم يمثّل إسعافاً بالمعنى التقني، فإن أبو ظبي ابتكرت وسيلة غير لبقة لتأمين المساعدة لجارتها المحاصرة، وبالتالي لتجنّب حصول انهيار كامل في اقتصاد دبي، أو لتأخيره على الأقل.

حتّى لو نجت دبي من الركود العالمي، فسوف تكون ظلّ الإمارة السابقة، إمارة تكاد لا تتمتّع باستقلال ذاتي

حتى الآن، ليس واضحاً ماذا سيُكتب على ضريح نموذج دبي. فجبل ديون الإمارة يستمر في الارتفاع ـــــ وقد زادته السندات علوّاً. ويُحتمل أن يتراجع التصنيف الائتماني لمؤسسات مدعومة من الحكومة في المستقبل، ما يُرجِّح إنزال مرتبة أسهمها إلى الحضيض. في أوائل أيار/ مايو، قُدِّر أن أسعار الممتلكات في دبي سوف تنخفض بنسبة 80 بالمئة عن الذروات التي بلغتها سابقاً، قبل أن تنحدر إلى أدنى مستوى لها، وفي نهاية الشهر، أُقيل مدير دائرة دبي المالية من دون أي تفسير. وبما أنه المسؤول الكبير الوحيد الذي يعرف عن حق مدى الأزمة، كان يمثّل رابطاً مهماً للمستثمرين وأصحاب الديون الحذرين. في هذه الظروف، سيمتد حتماً تأثير أبو ظبي، وحتى لو نجت دبي من الركود العالمي، سوف تكون الإمارة التي ستخرج في نهاية العاصفة ظلّ الإمارة السابقة، إمارة تكاد لا تتمتع باستقلال ذاتي.
قد يجادل البعض بالقول إن دبي كانت مديونة في السابق، وتمكنت دوماً من النهوض من جديد. غير أن ديونها الماضية كانت تُستخدم لتمويل بنية تحتية مادية مفيدة ـــــ مثل المرافئ والمطارات والأحواض الجافة والجسور ـــــ وقد عزّز معظمها جوهرياً دورها التقليدي كمركز تجاري إقليمي، غير أن ديون النظام الاقتصادي الجديد استُعملت، على العكس، من أجل بناء قطاعات هدفت إلى إدخال الأموال إلى دبي، وإبقائها فيها بدلاً من أن تتيح لها أداء دور محاور فعّال. وسمح ذلك لاقتصاد لا يتمتع بمقومات الحياة بالتكوّن عند أطراف الصحراء. لكن ما فاقم الوضع أن تدفق المغتربين الكبير، الذي لم يخضع للتدقيق في خلال سنوات الازدهار، قد سبّب اختلالاً ديموغرافياً هائلاً، وسوف يخلّف رحيلهم فجوات عميقة في الاقتصاد: فعلى عكس ما يجري في حالة الركود في دولة متقدمة حيث يترك التسريحُ العمالَ على هامش الحياة العاملة، إنهم، في دبي، مجبرون على الرحيل ضمن مهلة شهر، إذ إن تأشيرات الإقامة تنتهي مدتها.
بفضل الآلية التي تسمح للمرء بمعرفة طبيعة ما جرى بعد وقوعه، يجب على أصحاب الأحلام والمخططين لها أن يدركوا الآن أنه ما كان يجب أن يُسمح أبداً للعقارات والسياحة الفاخرة ـــــ وربطاً بهما ـــــ لقطاع البناء، بالتحول إلى ركائز الاقتصاد. فقد اعتمدت كلها على سيل غير منقطع من الاستثمار الأجنبي المباشر ومناخ دولي ملائم أبداً للتسليف. لم تُبذل جهود كثيرة لإبطاء حدوث المتوقع القادم زاحفاً، وأُدخلت التنظيمات في مرحلة متأخرة جداً، ولم يُتخذ قرار رسمي بتأجيل دفع الديون المستحقة على مشاريع العقارات، حتى حين بان في الأفق فيض واضح من العروض المفرطة. من دون تأشيرات أطول مدى أو خارطة طريق نحو المواطنية تُمنح للمستثمرين أو المغتربين، لم تبذل دبي جهداً كبيراً من أجل تنمية الولاء لها أيضاً. وقد يكون الجانب الأغرب للأزمة السرعة التي حدثت فيها: فبعدما ضربت أزمة الائتمان الخليج بأسابيع تجمَّد اقتصاد الإمارة، وفي غضون أشهر فرغت الخزنات. من دون خطة طوارئ واضحة، لم يكن “حلم دبي” بأكثر من مقامرة عملاقة؛ وها هم مواطنوها يُتركون الآن مع أسوأ معدلات سُجِّلت عالمياً لنسب الدين إلى إجمالي الناتج المحلي.
* مدرّس محاضر في العلوم السياسية، جامعة درهام، المملكة المتحدة، ومؤلّف كتابَي “دبي: هشاشة النجاح” و“دبي: النفط وما وراءه”
(ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية)