سعد الله مزرعاني *يكثر الكلام في المرحلة الراهنة عن صلاحيات رئيس الجمهورية وضرورة تعزيزها. وخلافًا لما درجت العادة عليه في مراحل سابقة، فإنّ قوى في المعارضة، لأسباب يعود جزء منها إلى التجاذبات السياسية والطائفية، هو من يطرح ضرورة التعديل ــــ التعزيز. رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان طالب هو أيضاً بتعزيز صلاحيات الرئيس. وفي المناسبة فإنّ «الرئيس» في الدستور هو رئيس الجمهورية. وهو «رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن. يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه وفقاً لأحكام الدستور» (المادة 49 من الدستور). ثمّة أيضاً رئيس لمجلس الوزراء، وآخر لمجلس النواب. لكنّ رئيس البلاد واحد. ومصطلح الرؤساء الثلاثة استخدام شائع وخاطئ في الوقت عينه. وهو صحيح فقط من وجهة نظر المحاصصة والممارسة الطائفية والمذهبية، ومن وجهة نظر تنامي مناخات مخالفة الدستور وتضخّم دور الدويلات على حساب الدولة.
وبالنظر في الممارسة الدستورية للرئيس سليمان منذ انتخابه قبل خمسة عشر شهراً بالتمام والكمال، يمكن ملاحظة أنّ أداءه قد تطوّر بوضوح، وأنّه لم يرتقِ بعد إلى مستوى ما هو مطلوب، من وجهة نظر حاجات البلاد الأساسية ومن منطلق ضرورة معالجة أزماتها المتفاقمة والمنذرة بأسوأ العواقب.
والمقصود بتطوّر أداء الرئيس هو ما استجدّ من مقاربته لموضوع الإصلاح في مسألتي تأليف «الهيئة الوطنية» لإلغاء الطائفية السياسية (المادة 95 من الدستور)، وتكرار التأكيد على ضرورة اعتماد قانون نسبي للانتخابات النيابية. ويجب القول في هذا الصدد إنّ الرئيس قد وضع الإصبع على الجرح، أو هو على الأقل، لم يفعل كما فعل سواه، في تجاهل البنود الإصلاحية من الدستور وتحويل المؤقت في قانوننا الأساسي إلى دائم، بكلّ ما ينطوي عليه ذلك من مخالفات فاضحة ومخاطر قاتلة!
لكنّ هذين المطلبين وما أُضيف إليهما في خطب الرئيس من إشارات متلاحقة إلى ضرورة تعزيز صلاحيات رئاسة الجمهورية، لم يقعا بعد في نطاق برنامج وخطة متكاملين، رغم وعود أطلقها الرئيس في هذا الصدد، وبدءاً من الثامن من حزيران، كما ذكر في أحد مواقفه قبيل الانتخابات النيابية في السابع من حزيران الماضي.
لا نريد أن نطلب من الرئيس ما يتخطّى قدراته وصلاحياته، أو ما يقفز فوق المعطيات الموضوعية المعقّدة التي تعيشها البلاد، وتلك التي تجتازها المنطقة (معروف تماماً تفاعل الوضعين المحلي والإقليمي). ومعروف أيضاً ما هو مطلوب من الرئيس من دور توافقي وتسووي لامتصاص بعض عناصر التوتر ومظاهره التي تندلع وتتفاقم وتتعاظم بين وقت وآخر. معروف أيضاً أنّ البرنامج الإصلاحي لم يكن هو السبب الذي وجّه نشاط الرئيس في مرحلة التهيّؤ ذاتيًّا وموضوعيًّا لتنكُّب مسؤولية الموقع الأول في البلاد. ورغم ذلك، ورغم التعقيدات والممانعة والعرقلة من أصحاب النفوذ والمصالح، فإنّ الرئيس مُطالب بدور تاريخي (ليس هو وحده بالطبع). وهذا الدور الذي طالبنا الرئيس به سابقاً، لا يحتمل الانتظار ولا التأجيل. ومن أجل القيام بهذا الدور يجب لفت النظر إلى بعض السياسات والممارسات التي لا تتفق والمهمة الإنقاذية ــــ الدستورية لرئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان. من هذه الممارسات، السعي لإنشاء كتلة للرئيس، أو القبول باقتطاع حصّة له في هذه الحكومة أو تلك. يردّد الرئيس سليم الحص، أنّ المسؤول يضعف عندما يطلب شيئاً لنفسه. هذا صحيح تماماً، إذ غالباً ما يكون هذا الطلب على حساب الأصول والمصلحة العامة. ولقد استسهل رؤساء سابقون الانخراط في المحاصصة. حصل ذلك على حساب موقع الرئاسة ومسؤولياتها وواجبات شاغلها ودوره الدستوري خصوصاً. وحصل ذلك أيضاً على حساب المصلحة الوطنية العامة المُناط أمر السهر عليها، قبل أيّ شخص أو هيئة، برئيس الدولة، كما جاء في المادة الدستورية المُشار إليها آنفاً. وفي ظروف لبنان وأزماته المعقّدة الراهنة، كان من شأن تخلّي الرئيس عن دوره الإنقاذي، تعميق أزمات لبنان واللبنانيين، وخصوصاً تفاقم عجزهم عن بناء دولة ووطن، بالمعاني البسيطة وبالشروط الضرورية لبناء الدول وقيام الأوطان واستمرارها.
ذلك يملي، منطقياً، أن يتخلّى رئيس الجمهورية عن كلّ حصّة يمكن أن تترك له أو أن يطلبها لنفسه، ما دام المطلوب إسقاط مبدأ المحاصصة المذهبية والطائفية لمصلحة إعلاء شأن مبدأ قيام المؤسسات الحديثة والعصرية. قد يُقال إنّ دور الرئيس الوفاقي، ودوره في تمرير التسويات المانعة للأزمات السياسية والأمنية، هو ما يفرض عليه القبول بحصّة في هذا الموقع السياسي أو الإداري أو الحكومي... قد يكون هذا الأمر ضرورياً في وقت من الأوقات أو مرحلة من المراحل. لكن لا ينبغي أن يتحوّل ذلك إلى سابقة أو إلى «موضة» يجري تكريسها والسعي لتعزيزها في كلّ الأمور الكبيرة والصغيرة. ونعرف كما يعرف سوانا في هذا الصدد، أنّ ناصحي السوء كثر، وأنّ صيّادي الفرص والمناسبات أكثر. وهؤلاء وأولئك يحومون حول مواقع المسؤولية، ولطالما نجحوا، للأسف، في الترويج للنفعية ولسوء استخدام السلطة، والموقع ولـ«الثقافة» المبرّرة لهذا الأمر: بدءاً من «الشطارة»، وصولاً إلى منع الآخرين من الاستئثار...

رئيس البلاد واحد. ومصطلح الرؤساء الثلاثة استخدام شائع وخاطئ
يجب القول، إنّ ما أتناوله هنا، إنّما يمثّل أيضاً وجهة نظر فريق من السياسيين الذين أدركوا أنّ البلاد معرّضة لمزيد من الصعوبات والأزمات وحتى الكوارث، ما لم يجرِ تدارك ذلك، ومن موقع مبادرة الموقع الأوّل في البلاد تحديداً. وأوّل المطلوب في هذا الصدد أن يدخل الرئيس ميشال سليمان على خط أزمة التأليف من بابها العريض، وذلك في المسائل الآتية:
أوّلاً: مخاطبة مجلس النواب بأهمية، بل بمصيرية الشأن الإصلاحي، استناداً إلى الدستور نفسه، بل تطبيقاً لأحكام هذا الدستور.
ثانياً: إدراج ذلك ضمن خطة إنقاذ متكاملة، جوهرها بناء مؤسّسات الدولة تمكيناً لها من أن تقوم، كما يعبّر الرئيس السابق لمجلس النواب السيّد حسين الحسيني. والمقصود بذلك سحب مشاريع قوانين بناء السلطة القضائية المستقلة، والدفاع الوطني، وإنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، وإقرار قانون انتخابات نسبي وخارج القيد الطائفي، من الأدراج. والمقصود بالأدراج هنا، أدراج مجلس النواب نفسه (مشروعا سلطة القضاء المستقلة والدفاع الوطني) أو مجلس الوزراء (مشروع قانون الانتخاب النسبي) أو من الأدراج «المشتركة»، إذ ثمّة مشاريع إصلاحية سبق أن قدّمتها إلى الجهات الرسمية مؤسّسات وأحزاب سياسية ومدنية، ولم تلقَ أيّ اهتمام في أيّ وقت من الأوقات!
ثالثاً: أن يبادر الرئيس إلى الامتناع عن أخذ حصّة. وإذا فعل، فلمهمة وحيدة: تعزيز قدرته على إظهار إفلاس منطق المحاصصة والمحاصصين، ودعم خطّته الإصلاحية التي ثابر على تكرار بنودها بدءاً من خريف العام الماضي.
هذه هي المهمة التاريخية التي ينتظرها اللبنانيون من الرئيس العماد ميشال سليمان. وعندما نقول اللبنانيين، نعني بالضبط مصلحة أكثريتهم الشعبية الساحقة. لقد استقطِب لبنان واللبنانيون في العصبيات الطائفية والمذهبية، وارتباطاً بذلك، في الارتهان للخارج. الإنقاذ يبدأ من رفض هذا الواقع، ورفض هذا الواقع يبدأ من صفارة إنذار وإنقاذ يطلقها رئيس الجمهورية لبناء ولعب دور تاريخي وليس فقط لتعزيز بعض الصلاحيات في نطاق المحاصصة الراهنة... القاتلة.
* كاتب وسياسي لبناني