لبايا ــ عساف أبو رحاليعتبر «الصعتر البري» الوجبة الصباحية الأكثر شعبية في لبنان، فبين المناقيش الشهيرة والكعك الذي يغمس بالصعتر الناشف، وحتى الإفطار الصباحي الذي يؤكل فيه مسحوق الزعتر إلى جانب زيت الزيتون، وهو وجبة اشتهرت بأنها «تفتح عقل» التلامذة، يتنامى الطلب على الصعتر، وخصوصاً البلدي، أكثر فأكثر، ما دفع بعشرات العائلات في بلدة لبايا في البقاع الغربي إلى تحويل نشاطها إلى جمع ما أمكن من هذه النبتة البرية التي أخذت تمثّل في السنوات القليلة الماضية، وما زالت، مصدر عيش لهذه الفئة التي تمضي غالبية أوقاتها في فصل الصيف، متنقلة وسط أماكن جبلية وعرة حيث يكثر ظهور البنتة. ونظرا للإقبال الشعبي المتزايد، بات العاملون في جني الصعتر وتوضيبه مقصداً للتجار وشريحة واسعة من العائلات التي تعتمد عليها صنفاً من أصناف المؤونة البيتية، علماً بأن ربات البيوت يستعملنه طازجاً ويضفنه إلى أنواع السلطة والكبيس والبيتزا.
وتعتبر بلدة لبايا في البقاع الغربي أكبر منتج للصعتر، لغنى محيطها بهذه العشبة البرية، ويذهب المواطن حمودة زكي إلى أن أكثر من 50 عائلة في البلدة تعمل في جمع هذه العشبة المجانية الكلفة، التي لها مردود لا بأس به في ظل انعدام فرص العمل. وقال: «يبدأ الجنى بعد أن تزهر النبتة مطلع فصل الصيف، ويمتد الموسم نحو شهر ونصف من العمل المتواصل» وقدّر منتوجه لهذا العام بنحو 500 كيلوغرام من الصعتر المطحون الجاهز للاستعمال، بعدما كان في العام الماضي بحدود ألف كيلوغرام. وعزا نسبة التراجع إلى أن البعض يعمد إلى قلع النبتة من جذورها بدل قص أغصانها، وهذا الأمر ينعكس سلباً ويحد من رقعة انتشار هذه النبتة، أما عملية التحضير فتحتاج وقتاً وجهداً لأنها تقليدية بعيدة عن أنواع المكننة. تنقل أغصان الصعتر من الحقل وتوضع على سطوح المنازل فترة أسبوع لتجف وتيبس، ثم يفصل الورق عن القش، ويوضع داخل كيس ويدق بواسطة مدقة خشبية ليصبح ناعماً، ثم ينخل وتضاف إليه مادة السماق البلدي. ويباع الكيلوغرام الواحد بنحو 30 ألف ليرة، فاطمة إسماعيل، التي تعمل في الجني، قدرت منتوج العائلة الواحدة بنحو مئة كيلوغرام على الأقل في السنة، فيما حاجة البيت الواحد لا تتجاوز الثلاثة كيلوغرمات، وقالت: «نبتة الصعتر مشاكلها الزراعية قليلة، وحجم إنتاجها يزداد مع ازدياد عمرها، ويمكن جني أربع قطفات خلال العام الواحد إذا توافرت كميات المطر في فصل الربيع». ورأت أن العمل في قطاف الصعتر مهنة ليست بحاجة إلى رأسمال، بل تحتاج جهداً شخصياً ومواظبة يقودان إلى جمع مبلغ من المال يساعد في العيش وتدبير الأمور. بعض الأهالي لم يكتف بما يجنيه من الأرض البور بل عمد إلى نقل الجذور البرية وزراعتها أمام المنازل للاستفادة منها على مدار السنة من خلال ريها والاعتناء بها. وتبقى المشكلة مع كيفية تنظيم وتوقيت عملية القطاف التي تتم عشوائياً لا تراعي توقيتاً ولا ظرفاً، أي لا تأخذ بعين الاعتبار وجوب ترك النبتة للموسم التالي، الأمر الذي قد يؤدي إلى انقراض هذه النبتة التي تنحسر مساحتها أكثر فأكثر، وخصوصاً أن الحرائق الكارثية التي التهمت أحراج لبنان في السنوات الماضية، تداهمها كل عام وتقضي على كميات كبيرة منها.
أما حين ينتهي موسم الصعتر؟ فالله يرزق، حيث إن البراري تغدق خيراتها من دون حساب على الناس، وحيث إن تنظيم الطبيعة لمواسمها توالياً، ينقذ الإنسان برغم كل ما يفعله من تخريب لنظام أمه الطبيعة.


رأس مال صفر

دفع غياب فرص العمل بشريحة واسعة من أهالي بلدة لبايا إلى التفتيش عن مصادر رزق بديلة تؤمن لقمة عيش كريمة بعيداً عن رأس المال المتعذر أصلاً، فكانت البراري والأماكن الجبلية الوعرة مصدراً طبيعياً مجانياً للأعشاب الغذائية التي تستخدم في المونة، من تلك الموسمية المعروفة بالسليق، إلى تلك التي تستخدم في المؤونة بعد تجفيفها كالصعتر البري، الذي أخذت تعتاش منه نحو خمسين عائلة في البلدة النائية.
وللصعتر البري مردود اقتصادي يتراوح بين المقبول والجيد، لكن القطاف العشوائي لتلبية الطلب المتزايد على أصناف الصعتر، إضافة بالطبع إلى الحرائق التي تذهب البراري ضحيتها الأولى، يهددان بانقراض هذه النبتة التي تميز براري لبنان
وجروده.