اقتناء الآثار وبيعها في الأسواق، أو نبشها في الأرض وسرقتها أصبحت اختصاصات لبعض علماء الآثار في الجامعات الغربية. نيل برودي من أوائل الاختصاصيين في هذا الموضوع، ويعمل حالياً على واقع الآثار في لبنان
جوان فرشخ بجالي
علم الآثار في لبنان واهتمام اللبنانين ورأيهم في المقتنيات الأثرية هي النقاط التي تهمّ العالم البريطاني نيل برودي، الذي ينهي اليوم زيارته إلى لبنان التي دامت أسبوعاً. ويعدّ الدكتور برودي من أهم الاختصاصيين في العالم في مجال تهريب الآثار وبيعها في الأسواق العالمية، وهو اليوم مدرّس في جامعة ستانفورد الأميركية، وكان يشغل سابقاً منصب مدير مركز دراسات “الاتجار غير المشروع بالآثار” في جامعة كامبريدج البريطانية. ويأمل برودي أن يعدّ في السنة المقبلة دراسة ميدانية واسعة عن واقع الآثار والتراث في لبنان، يجمع خلالها معلومات عن تطور مفهوم الآثار لدى الشعب اللبناني بسبب الحكم العثماني، والاستعمار الفرنسي والحرب الأهلية وقانون الآثار، الذي كان يشرّع الاتجار، ويسمح للمواطنين بامتلاك التحف.
يرى برودي أن مشكلة “اختزان الآثار” واستملاكها بدأت مع المتاحف الغربية في القرن الثامن عشر، حينما بدأت المنافسة بين المتحفَين البريطاني والفرنسي (اللوفر)، والتي أدّت إلى “سرقة” أكبر القطع الأثرية في دول العالم القديم. ويقول برودي إن “المتاحف تعرض اليوم هذه القطع باعتبارها جزءاً من تاريخها، وهي فخورة جداً باقتنائها، ما يحث الزائر وكل مواطن في تلك الدول على الشعور بهذه الطريقة تجاه القطع الأثرية. فيعدّها قطعاً فنيةً يمكنه اقتناؤها وعرضها في ممتلكاته الخاصة. لكن، إذا عرضت يوماً هذه المتاحف الكبرى تلك القطع تحت شعار “التاريخ المسروق للأمم” فستتبدّل الرؤية تماماً، ولن يعود موضوع شراء الآثار وامتلاكها نقطة فخر، بل موضوع تساؤل وشعور بالخطأ الفادح”.
الطريق الأفضل لمكافحة سرقة الآثار تكمن في النمو الاقتصادي للدول
لكن، في غياب هذه المفهوم السلبي لاقتناء الآثار، تنمو تجارة القطع الأثرية، ولا سيّما الآن، على شبكة الإنترنت، حيث أصبح عرض القطع أسهل وأوسع. ويوضح برودي أن «هناك مئات المواقع على الإنترنت التي تعرض بيع قطع أثرية، و40 منها تعرض رقماً طينية وأختاماً أسطوانية مصدرها العراق. وتعطي تلك المواقع التي تمثّل معارض كبيرة لها فروع في العالم، مع كل قطعة، ترجمة للنص المكتوب بالكتابة المسمارية. فكاليري بركات كانت تعرض أكثر من 100 رقم طيني للبيع. وتؤكد برودي أن مصدر تلك الآثار موقع واحد، ما يعني أنها تأتي من أرشيف ملكي معيّن. وحينما سألت المسؤولين عن صالة العرض عن مصدر تلك القطع كان الجواب أنها بيعت في الأردن عام 1950. وهذه الأوراق الثبوتية تسمح لهم ببيعها في الأسواق العالمية، لكون التشريعات، ومنها اتفاقية اليونسكو تحرّم الاتجار بالآثار المكتشفة بعد سنة 1970، لذا يوفّر التجار تلك الأوراق الثبوتية عن تاريخ اكتشاف القطع. لكن هذه الأوراق الثبوتية لا تعني شيئاً لكون تزويرها سهلاً جداً. ففي تل أبيب، مثلاً، يعدّ الاتجار بالآثار غير العبرية مشروعاً. لذا، تزوّد المحالّ التجارية زبائنها بأوراق ثبوتية هي في الحقيقة نسخ عن ورقة أصلية أصدرها صاحب المحل في فترة معينة ثم نسخ كميات منها”.
ويعتقد برودي أن غالبية أصحاب الملايين ليسوا مهتمين باقتناء القطع الأثرية، فهم يفضّلون استثمار أموالهم في مجالات أخرى. كما أن كميات القطع المزوّرة في السوق يبدو كأنها تؤثّر في قرار الشراء عند البعض منهم. لذا، بدأت صالات العرض ودور المزادات العلنية تتّبع تقنيات مدروسة في التسويق. فلا تتأخر تلك المتاجر في عرض القطع على علماء آثار، وخبراء في اللغات القديمة لتعطي ترجمة للنصوص أو شهادات تثبت أن التحف الأثرية أو الرقم الطينية أصلية.
ويلاحظ برودي أنه مع سهولة السفر والتنقّل عبر القارات تحولت بقاع الأرض إلى مناطق يمكن أن تُسرق آثارها الدفينة، وتباع في الأسواق العالمية. ويقول إن الأسواق تطالب بالآثار الآسيوية، وتعدّها قطعاً جمالية تُستعمل للتزيّن. أما بالنسبة إلى التحف التي تأتي من دول حوض البحر المتوسط، فهي مطلوبة عند الشعوب الأوروبية. وقد باتت التحف الإسلامية أخيراً مرغوبة في الأسواق العالمية، ما أشعل أسعارها في دور المزادات العلنية، وحوّل المواقع على الأرض إلى أرض تُنبَش كل يوم بحثاً عن قطع قديمة.
ويرى برودي أن الطريق الأفضل لمكافحة سرقة الآثار تكمن في النمو الاقتصادي للدول. ويعطي اليونان مثالاً على ذلك. فيقول: “في الستينات من القرن الماضي كانت اليونان دولة فقيرة عانت الحرب الأهلية وغير موجودة على الخريطة السياحية للعالم، فكانت المواقع الأثرية المنتشرة على الجزر تتعرّض لعملية نهب واسعة، وكان أهالي القرى النائية يعدّون سرقة الآثار مخرجاً من وضعهم الاقتصادي الصعب. لكن ما إن أصبحت اليونان جزءاً من الاتحاد الأوروبي، وبدأ السيّاح يتدفّقون عليها سنوياً حتى تحوّل اهتمام الأهالي من الآثار إلى إنشاء مطاعم صغيرة أو فنادق يرتكز عملها على وجود الآثار في مكانها، وإنشاء متاحف صغيرة على الجزر. فبدأوا يدافعون عن المواقع الأثرية ويمنعون بعضهم من سرقتها”.