أنسي الحاج

■ نبيٌ حديث


لدى مطالعته كتاب «السينما بين الوهم والحقيقة» لبول وارن (ترجمة علي الشوباشي ـــــ الهيئة المصرية للكتاب، 1972)، توقّف الصديق إميل منعم أمام عبارة «العالم قرية كونيّة» الواردة فيه والتي أصبحت من دارج القول دون أن يعرف كثيرون مَن هو مبتكرها. وإذا به الفيلسوف الكندي هربرت مارشال ماكلوهان صاحب النظريات الثوريّة في موضوع وسائط الاتصال ومؤلف كتاب «مجرّة غوتنبرغ» (1963). وأما «العالم قرية كونيّة» فقد استعملها للمرة الأولى في كتابه «الميديا هي هي الرسالة» الصادر عام 1967 (شاركه في كتابته كوينتين فيور).
ولد ماكلوهان يوم 21 تموز 1911 وتوفي يوم 31 كانون الأول 1980. ويروي عنه الإنترنت أنه جمع في شخصه صفات المربّي إلى الفيلسوف وعالِم الاجتماع وأستاذ الأدب الإنكليزي، وأنه اعتنق الكاثوليكيّة، وهو أحد أشهر مؤسسي الدراسات الحديثة حول عالم الميديا وتحوّلات المجتمع بتأثير وسائلها الجديدة. أما بول وارن فيعتبره، في كتابه السالف الذكر، من أعظم أنبياء العصر. ويقول وارن إن مؤلفات ماكلوهان صعبة القراءة مثلها مثل أفلام غودار، «فكلا الرجلين نبي، يسحره الواقع والحياة المعاصرة. لذلك فإنهما يقدمان لنا عالماً غامضاً وجديداً إلى حد أن وسائل إدراكه التقليدية (أي مناهج التحليل والتركيب والتوليف أو المونتاج) تصبح عاجزة عن تفسيره. فكما أن أفلام غودار لا تحتوي على طرق سهلة لإيجاد التوافق بين اللقطات والمشاهد ـــــ مثل الظهور والاختفاء والمزج وغيرها ـــــ كذلك فإن جمل ماكلوهان لا تتضمّن إلّا قدراً ضئيلاً جدّاً من كلمات الربط بين هذه الجمل مثل حروف العطف أو المقابلة إلخ... ومن هنا ينشأ ضيق المتفرجين والقرّاء التقليديين وغضبهم أمام أحد أفلام غودار أو أحد مؤلفات ماكلوهان».
من أبرز نظريّات ماكلوهان أن المضمون الحديث للاتصال هو بالضبط الشكل نفسه الذي اتخذه الاتصال (التلفون، التلفزيون) وهو كذلك المزيج الذي يشكّله مع الخبر أو المضمون اللذين يقدّمهما. وهكذا تصبح الأداة المستعملة للاتصال (أو للتعبير) أهمّ من مضمون هذه الأداة، ولها على المتلقّي تأثير موازٍ إن لم يكن أكبر من تأثير المضمون نفسه.
ويصنّف وسائل الميديا تحت مسمّيين: الوسائل «الدافئة» (كالكتابة والسينما التقليديّة) وهي لا تقتضي منّا غير مشاركة حاسّة واحدة من حواسنا، فتظلّ مشاركة دماغنا ضعيفة جدّاً، والوسائل «الباردة» (كالتلفزيون أو سينما ضد السينما كأفلام غودار) التي تحاكي فينا بضع حواس معاً، ممّا يستدعي من المتلقّي مشاركة مهمّة جدّاً، إذ يجد نفسه مرغماً على استكمال الواقع الذي تقدّمه له في صورة غير مكتملة، فلا يستريح في دور المتلقّي السلبي.
عام 1962 أعلن ماكلوهان أن البشريّة انتقلت من «مجرّة غوتنبرغ» ودخلت في «مجرّة ماركوني»، فاستنتج بعضهم أن الإعلام المطبوع قد ولّى زمنه، وسيطر على الصحافة جوّ من الذعر. غير أن العكس هو ما تحقّق، رغم رواج التلفزيون. فحيال فوريّة الخبر المصوَّر ومحدوديّة آفاقه، تزايدت الرغبة بقراءة الصحف لإشباع حاجتَي الإحاطة المفصّلة والفضول الفكري.
لقد تنبّأ ماكلوهان بأن ثورة وسائل الاتصال السمعيّة البصريّة الحديثة ستسفر عن سيادة ثقافة واحدة، كما لو أن العالم بات قرية واحدة تسكنها قبيلة واحدة «في زمن واحد، على إيقاع واحد، وفي مدى واحد». رؤيا تَحقّق منها جزء كبير خلال ثلث قرن ولا تزال المجاهل أمامها كثيرة. ولعلّ أكثر ما يعنينا منها في الدنيا العربيّة هو الخدمة التي أدّتها ثورة الميديا إلى حقل الحريّة، فوسّعت حدودها وأسقطت جدراناً كثيرة للتعتيم في أعتى قلاعه. ولعلّنا أيضاً نتجه وغالباً دون وعي نحو أن نصبح أعضاء في تلك القبيلة العصريّة، شاءت عقائدنا وتقاليدنا أم أبت.
أخَيرٌ ذلك أم شرّ؟ الأرجح أن الجواب في مكان آخر، والأنبياء الحديثون لم يعودوا، على كلّ حال، خطباء أخلاقيين، فهم منهمكون في معايشة الواقع واستقرائه بصرف النظر عن السوابق وعن المعايير الجاهزة. وهذه إحدى أبرز ميزات ماكلوهان، الذي لم تمنعه كاثوليكيّته من تجاوز رؤيا يوحنّا، ولا مَنَعَهُ روح السخريّة وطليعيّة الفكر من اعتناق الكاثوليكيّة.

■ تَسَمُّم


كيف يمكن أن يؤخذ المرء بالشأن السياسي حدّ الانغماس؟ هل طبيعي أن يستحوذ الهَبَل والاستهبال على العقل؟ وأيّ شعبٍ هو الذي ينام ويصحو على دجل الدجّالين وتفاهاتهم؟
كان الأمر ليكون مفهوماً لو اقترنت السياسة بالحريّة. ولكنْ عن أي حريّة نتكلّم وليس مسموعاً غير الزعيق؟ وأمّا الخبز فيبدو أن المجتمع الواقعي، إلّا مَن فيه ينتحرون، يتدبّر نفسه بدون حاجة إلى حقوق.
وبات كل بَهْوَرجي لا يرضى بأقلّ من إرعابنا. يا ما أرحم الحرب الأهليّة.

■ «اطمئنّوا»


المغنّي الذي يغمض عينيه سرغسةً وهو يغنّي، يشبه الزعيم أو الرئيس الذي يحرّك رأسه ويرسل البلاغات بعينيه بمعنى أنه فاهم الموضوع من زمان «وسترون كيف يكون الرؤساء».
التلمُّظ المادح نفسه هو اندماج الغرور والعنف. والمغنّي الذي يُسَرغس على نفسه بالإغماض أو تمويج الرأس نشوةً أو هزهزة الرجلين أو، بالعكس، البحلقة في المستمعين وترقيص الحواجب، يستحقّ أن يتحكّم فيه ليربّيه شخص سادي يمنعه من إبداء أي علامة فرح.
الصوت الجميل، كرجل الدولة، يستحوذ دون أن يبدو عليه، ويُسْكِر ولا يَسْكر. رجل الدولة يُطَمئن دون أن يهزّ برأسه عند سماع كل مشكلة بمعنى: «لقد انتظرتم أجيالاً لأظهر عليكم، وها أنذا مخلّصكم فاطمئنّوا».
لا الذي يقولها يريح ولا الذي لا يقولها، لكن الفرق أن الثاني عتبه مرفوع.

■ الهاجس المُنقذ


لم أستطع مرّة الجلوس براحة. لا في المنزل ولا في السيّارة ولا في الطبيعة. كمَن على أهبة الرحيل.
أُعْجَب للمالئين مقاعدهم. عندما أدخل على أحد في مكتبه وأراه راسخاً في كرسيه يبعث ذلك في نفسي طمأنينة.تستعيدني طفولتي وأغرق في هالة أبوّة الجالس.
يقول مثل عربي إن الجالس خيرٌ من الواقف، لكنّه يضيف إن المستلقي خير من الجالس والنائم خير من الصاحي والميت خير من الحي. ربّما يكون الميت خيراً من الحي، ولعلّ غير المخلوق أفضل من الاثنين، أما المستلقي فمجسَّم استفزازي لواحد من أقبح المشاهد، قد يفوق وضعيّة النائم بشاعة أو تفوقه، حسب الظروف. وفي ما يتعلق بالجنس اللطيف تظلّ وضعيّتا الجلوس والسير وتحديداً السير في الشارع أكثر الوضعيّات إغراء. بخلاف الرجل، فسيره في الشارع سير ثعلب أو قنّاص، في حين تخطر الأنثى كغصن فاكهة تحدجه الشمس فيستوعب وحشيّتها بنضارته.
وكما في كلّ شيء تقريباً ينحاز الفرق بين الجنسين لمصلحة الأنثى. وربّما تقول هي حيال سذاجة كهذه: يا لصغر عقل الرجل! لكنّه الشكّ الضروري بالذات الذي لولاه لما أهدى أحدٌ نَفْسه. وما دام ثمّة عقدةُ نقصٍ فثمّة أمل، والأمل يُبدع للعيون غشاوة التوق، ولولا الغشاوة لما تحسّنت الصورة، فالصورة هنا تتكيّف حسب العين وليس العكس...
رأيٌ يزعج أنصار المساواة، فهم (وهنّ بالأخصّ) يعتبرون خيال الرجل عدوّاً للمرأة لأن العدل يقضي بانعتاقها من كلّ «تحنيط» جمالي أو رغبوي، والليبيدو، ـــــ أو «اللبيد» حسب التعريب الموفّق لقدري قلعجي يوم كتب قبل ثلاثة أرباع القرن دراسةً تعريفيّة بفرويد لا تزال من أفضل ما نُشر على هذا الصعيد بالعربيّة ـــــ الليبيدو خزّان عنصري، ولا بدّ لكل تصوّر أو استيهام ذكري، عندما يُسقط على الأنثى شهواته وشروطها، من أن ينحرف بها عن كونها إنساناً إلى جعلها مجرّد مصدر للشبق وهدف لإشباعه.
قولها هكذا يظهر الأمر استعباداً. لولا أن رغبة التحرّر هنا تعادل إعدامين: إعدام «صورة» المرأة وإعدام رغبة الرجل. وكلّ من الاثنتين تُولّد الأخرى. واللعبة المتكوّنة من هذه الثنائية وحواليها هي ما نسمّيها الحياة، وأكثر منها وأجمل: ظلالها وفنونها، ووهجها الواثب فوقها، أي الحلم...
... والشكر كلّ الشكر لمَن لا يزلن يرضين بدورهنّ الخالد، «المتخلّفات» اللواتي يتابعن مسيرة الحرص على ملسائيّة جنسهنّ وامتيازاته وأعبائه، واللواتي ما زلن يشاركن في الاعتقاد بأن الفوارق بين الجنسين يجب أن تكون مناطق مغناطسيّة لا أهدافاً لإطلاق النار عليها.
وكم الحياة مدينة لهؤلاء النساء! فهنّ شعبها الأكثر نضارة، ومذهبها الحرّ، وولادتها المتجدّدة بعد إحباط، وهاجسها الثابت المنقذ من التيه والجنون.