إيلي شلهوب


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

ربما هي الصدفة السعيدة التي جعلت انتهاء شهر رمضان هذا العام يتزامن مع انطلاق أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة. كانت حدثاً واجباً كي لا يشعر متتبّعو المسلسلات الدرامية بفراغ، سرعان ما ملأه السيرك الذي يُعرض حالياً في نيويورك ومحيطها وجوانبها.
عروض كثيرة نقلتها شاشات التلفزة مباشرة عبر العالم، خلال الأيام الماضية، بعضها اتّسم بملامح كوميدية، فيما كان البعض الآخر تراجيدياً بامتياز. المشهد الأبرز كان بلا شك انكشاف وجود منشأة تخصيب نووي قرب قم (علماء الذرة يجاورون علماء الدين). حدث سرعان ما انتشرت تداعياته كالنار في الهشيم، قُبيل استئناف طهران مفاوضاتها النووية مع مجموعة «5+1» يوم الخميس المقبل. صحيح أن هناك من تحدث عن أن أجهزة الاستخبارات الغربية كانت تعرف بوجود هذه المنشأة وبالكثير غيرها من دون أن تمتلك إثباتاً بشأنها، لكن حقيقة أن تبادر إيران إلى إبلاغ الوكالة الدولية للطاقة الذرية بها، مع انطلاق أكبر منتدى دولي في العالم (يوم الاثنين الماضي)، فهذا بحد ذاته يحمل في طيّاته مجموعة من المعاني.
هي رسالة متعددة الأهداف، في مقدّمها الرد على النغمة المنتشرة في الولايات المتحدة، حيث تفيد التحليلات منذ مدة بأن النظام الإيراني وهن وتخلّعت مفاصله منذ انتخابات الرئاسة الأخيرة، وبأن الرئيس محمود أحمدي نجاد دخل ولايته الثانية ضعيفاً بما يبشر باستعداد إيراني لإبرام تسويات وتقديم تنازلات. وهي أيضاً خطوة إضافية في إطار سياسة «الأمر الواقع» الذي تحاول إيران فرضه على المجتمع الدولي، من دون أن تخرق التزاماتها حيال وكالة الطاقة، التي تفرض على الدول الأعضاء فيها الكشف عن منشآتها النووية قبل 180 يوماً من إدخال مواد مشعّة إليها.
لكن أبرز ما في هذا الحدث، كما أشار باراك أوباما نفسه، هو التأكيد أن الجمهورية الإسلامية تمكّنت من إخفاء هذه المنشأة «لسنوات» من دون أن يكتشفها أحد، وبالتالي من المنطقي الاستنتاج أن إيران تخفي غيرها الكثير، ما يعني أن الخيار العسكري، إذا كان لا يزال يدغدغ مخيّلة أحدهم، لا جدوى منه، وعلى المتضررين من البرنامج الإيراني أن يتمسّكوا بالجهود الدبلوماسية.
يضاف إلى ذلك حقيقة أن هذا الإعلان ـــــ الرسالة أتى بعد أربعة أيام فقط من هدية أوباما لموسكو (التخلّي عن الدرع الصاروخية) وما رافقها من حديث عن ثمن روسي سيدفع من الجعبة الإيرانية، ليقول لكل من يعنيه الأمر: يمكنكم أن تبلطوا البحر أيضاً!
وأخيراً، ربما تكون هذه الرسالة ـــــ المفاجأة التبرير الوحيد للكلمة الهادئة التي ألقاها محمود أحمدي نجاد أمام الجمعية العامة. لعلّه شعر بالشفقة على الغرب وإسرائيل معاً تحت عنوان أنهما لن يتمكّنا من تحمّل مفاجأتين في آن واحد.
من سخرية القدر أنّ هذا الكشف جاء غداة القمة ـــــ الحدث التي تزعّمها أوباما في مجلس الأمن، حيث تجلّت السوريالية بأبهى حللها. قمة تاريخية برئاسة شخصية تاريخية في هيئة دولية تدّعي أنها أنشئت لإحقاق الحق والعدل والمساواة، عُقدت تحت عنوان: اللي ضرب ضرب واللي هرب هرب. الترجمة: من أسعفه الحظ وامتلك قدرات نووية نفد بريشه. لكن من الآن فصاعداً ممنوع على أي دولة دخول النادي النووي. هنيئاً لأصحاب الحظوظ، كبار القوم على هذا الكوكب، ومعهم الهند وباكستان... وإسرائيل.
أما المشهد الثالث، الذي مثّل نموذجاً للنفاق والرياء والخداع، فكان تلك القمة الثلاثية التي عقدها أوباما مع كل من بنيامين نتنياهو ومحمود عباس. أرادها الأول مناسبة لالتقاط صورة تنشرها وسائل الإعلام الأميركية لتثبت أنه حقق تقدماً في مسار التسوية، وإطاراً للتنصّل من التزاماته وتعهداته التي رافقته منذ حملته الانتخابية: وقف الاستيطان. تنصّل يحمل أحد معنيين: إما أن أوباما أفّاك، أو أنه عاجز. وفي الحالين، الويل للفلسطينيين، الذين لا شك في أن السعادة كانت تغمرهم وهم يشاهدون محمود عباس يصافح نتنياهو ويتبادل وإياه الابتسامات، هو الذي أقسم مراراً وتكراراً على أنه لن يعقد لقاءً كهذا ما لم تتوقف أعمال البناء في المستوطنات. من قال: قالوا للعاهرة...
أما نتنياهو، الذي عكست كلمته أمام الجمعية العامة نشوة الانتصار من منازلته أوباما وأبو مازن معاً، فلا شك في أنه جلس بعد ظهر أمس يلامس خدّه. لا بد أنه شعر بصفعة فارسية، هو الذي أفاض في «تلقين نجاد درساً قاسياً» ومهاجمة «الإرهاب الإيراني» قبلها بيوم واحد.
وتبقى درّة عروض هذا السيرك ذاك الذي قدمه معمر القذافي. جمع عقيد ليبيا كوميديا الشكل وتراجيديا المضمون. بدا خارجاً من التاريخ. قطعة آثار متحركة تحمل وزر عقود من الظلم والقهر. كلام حق أراد به استعراضاً. ذكّر الجميع بمآسيهم. بأحلامهم التي تكسّرت على ضفاف الزمن. بكل الأحداث التي جهدوا لكي ينسوها. بأنهم لا يزالون يعيشون في غابة يقودها وحوش في إطار مظلة فارغة بلا أي فعالية تدعى الأمم المتحدة.
هي الأمم (غير) المتحدة نفسها التي يقدم هذا السيرك عروضه تحت سقفها وضمن أطرها التي يطالب الكل بتغييرها ولا من مجيب.