حسام تمام*في آل البنّا ملاحظتان لا تخطئهما العين: كل «بنّاوي» هو بالضرورة صاحب «مشروع» فكري أو دعوي أو ثقافي أو اجتماعي خاص. وما يجمعهم معاً غير القرابة، أنهم تقريباً لا تربطهم أي علاقة بجماعة الإخوان التي أسسها ابن العائلة الشيخ حسن البنا. فالجيل الأول مرّ عليها ثم تركها أو تركته، والجيل الثاني ربما لم تربطه علاقة أصلاً بالجماعة ما عدا الابن الوحيد أحمد سيف الإسلام، إذ يبدو الأقرب إلى «الوصيّ» الذي تتجسد فيه معاناة «آل البنّا».
عاش الأب الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا الذي يعمل بإصلاح الساعات (لقبه الساعاتي) بعيداً تماماً عن جماعة الإخوان التي أسسها ابنه، فلم يكن يزورها إلا لماماً، وأصرّ على أن يعمل وحده بعيداً عنها حتى وهو يقوم بعمله الموسوعي الضخم «الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني». بل بلغت به الاستقلالية أنه لما أراد طبع كتابه الضخم أسّس مطبعة خاصة به!
الابن الأكبر بعد حسن كان عبد الرحمن، الموظف في هيئة السكة الحديد بالقاهرة، الذي أسس «جمعية الحضارة الإسلامية» في الفترة نفسها التي أسس فيها شقيقه جمعية الإخوان المسلمين بالإسماعيلية. وكان مقر «الحضارة» هو ذاته الذي حلّت فيه «الإخوان» بعد نقلها إلى القاهرة، وقد عرف عبد الرحمن بنشاطه ومواهبه، وخاصة في مجال الفنون، حيث أسس بمبادرة ذاتية مسرح الإخوان المسلمين الذي تخرج فيه عدد من أبرز نجوم المسرح العربي، مثل محمد السبع وإبراهيم الشامي وإبراهيم سعفان، وأشهرهم عبد المنعم مدبولي.
تولى عبد الرحمن رئاسة أقسام البر والخدمة الاجتماعية بالجماعة، وإن ظل دوره هامشياً في بنية الإخوان، وحين اغتيل أخوه من دون أن يترك نائباً عنه، كان الرابع (مع عبد الحكيم عابدين وصالح عشماوي وحسن الباقوري) ممن انحصر بينهم أمر خلافة المؤسس. لكن الخلاف حول الأربعة وبينهم انتهى باختيار مرشد من خارجهم (القاضي حسن الهضيبي)، وكان هذا آخر حضور لعبد الرحمن في الإخوان.
مع اندلاع الصراع بين قيادة الثورة وقيادة الإخوان، انحاز عبد الرحمن البنا وفريق من تيار الأزهرية (تزعمه محمد الغزالي وسيد سابق) إلى الثورة التي سعت إلى الاستفادة من رمزيته، فقربته إليها وكان يشارك في المناسبات الوطنية ويلقي الكلمات بالإذاعة. فكان فراقاً بينه وبين الإخوان لم يحدث بعده لقاء. قضى الرجل سنواته الأخيرة في عزلة لم تخلُ من معاناة نفسية، ومات عن ابن يعمل أستاذاً بالجامعة وابنة ربة بيت، وسبقه إلى الموت ابن آخر كان ضابطاً بالبوليس. ولم يكن للثلاثة أي علاقة بالإخوان.
ليس بعيداً من ذلك، سارت رحلة الشقيق الثاني «محمد». ترك الدراسة بالأزهر إلى الآداب ومنها إلى العمل بوزارة الشؤون الاجتماعية التي انتهى وكيلاً لها. اقترب من الإخوان فترة ثم ابتعد عنهم للأبد، ومات عن بنتين وولد لم يمرّ أحدهم يوماً من بوابة الإخوان.
«عبد الباسط» عالم وحده. كان ضابطاً بالبوليس، لكنه أيضاً مؤلف «أغانٍ» بعضها وطني وأغلبها عاطفي. كان من هواة الفن والتمثيل، وكان كثير التنقل في العمل وفي العواطف، ولم يكن له أي صلة بالإخوان تنظيماً أو فكرة، لكن طاله الاعتقال مع كل آل البنا في 8 كانون الأول/ ديسمبر 1948 قبل اغتيال أخيه. تصادف يوماً أن كان في حراسات ليمان طره، حيث يقبع سيد قطب ورفاقه، فعرض عليه تهريبهم، لكن قطب خشي أن يكون الأمر مكيدة فرفض، ولم يكن عبد الباسط إلا مدفوعاً بما عُرف عنه من حماسة. في سنواته الأخيرة اتجه للتدين الفردي بعيداً عن التنظيمات والسياسة، ولما مات، وكان بالمدينة المنورة، دفن في البقيع حسب وصيته.
الجيل الثاني يشترك مع الأوّل في الابتعاد عن جماعة الإخوان أو الإبعاد عنها
أما «جمال» أصغر الأشقاء، والمفكّر المعروف الذي يملأ الدنيا ويشغل الناس بأفكاره ومواقفه المثيرة للجدل، فهو أبرز مثال للطبيعة الخاصة لـ«آل البنا». «جمال» تختصره كلمة «لن أعيش في جلباب أخي». فرغم نشاطه المبكر في العمل الإسلامي والسياسي، فقد رفض تماماً أي ارتباط تنظيمي بجماعة الإخوان التي أسسها أخوه، فأسس في عام 1946 حزب العمل الوطني الاجتماعي، ثم جمعية رعاية السجون (1951)، والاتحاد الإسلامي الدولي للعمل (1981)، ثم مؤسسة فوزية وجمال البنا للثقافة والإعلام الإسلامي (1997)، التي أطلق منها ما سمّاه «دعوة الإحياء الإسلامي». أما أفكاره، فهي أبعد ما تكون عن اهتمام جماعة الإخوان (مثل الحركة العمالية والنقابية)، وعن منهجها أيضاً (الدعوة لفقه جديد). رغم تعاطفه معها، لا يرى «جمال» نفسه في جماعة الإخوان، وهي تبادله الشعور وأكثر، حتى صار موقفها منه أقرب إلى العداء!
لحسن البنا شقيقتان، الأولى فاطمة، وكانت ربة بيت لا صلة لها بأفكاره ونشاطاته، لكن زوجها عبد الحكيم عابدين كان من أقرب تلامذته وأعوانه، واتهمه بعض أعضاء الجماعة بأمور أخلاقية في أشهر «فتنة» تعرضت لها الجماعة، لكن لجنة تحقيق داخلية برأت الرجل الذي تولى في ما بعد منصب سكرتير الجماعة، وكان مرشحاً لخلافة صهره. مثل معظم آل البنا كان عبد الحكيم ممن انحازوا إلى جمال عبد الناصر والثورة، فأُبعد عن الإخوان وعاش بين لبنان والسعودية وانقطعت صلته بالإخوان.
فوزية هي الشقيقة الثانية، تزوجها عبد الكريم منصور المحامي صديق حسن البنا والشاهد على واقعة اغتياله أمام مقر جمعية الشبان المسلمين. لم يكن ضالعاً في أمور الجماعة رغم علاقة النسب بمؤسسها. غادر البلاد بعد حادثة المنشية وقبل إعدام (موكله) عبد القادر عودة. تنقل بين السعودية والسودان، حتى استقر في الأولى محاضراً بجامعة الملك عبد العزيز، فيما عملت زوجته معلمة للبنات. لم ينجبا أطفالاً، لكن كوّنا ثروة كبيرة، تبرعت بها زوجته بعد وفاته لشقيقها جمال، فاستغلها في بناء مؤسسة تخدم مشروعه الفكري الخاص.
الجيل الثاني من آل البنا يشترك مع الأول في الابتعاد عن جماعة الإخوان أو الإبعاد عنها، لكنه أقل انهماكاً بالحياة العامة وهمومها. للبنا خمس بنات (وفاء ورجاء وهالة واستشهاد)، وولد واحد (أحمد سيف الإسلام)، وتوفي له في حياته ولد (محمد حسام الدين)، وبنت (صفاء). لا يعرف لأي من بناته نشاط إسلامي أو ارتباط بجماعة الإخوان. «وفاء» كبرى بناته، هي الأكثر قرباً من أجواء الإخوان بحكم أن زوجها هو سعيد رمضان، أقرب تلامذة حسن البنا إليه. غادر سعيد مصر مع بداية الصدام مع الثورة، واسس في سويسرا المركز الإسلامي في جنيف. ورغم نشاطه الكبير في أوروبا وتأثير مجلته الشهيرة «المسلمون»، إلا أنه ابتعد عن الإخوان أو أُبعد عنهم في خلافات كان بعضها متأثراً بحساسية كونه صهر المرشد المؤسس في جماعة يبدو أنها عرفت مبكراً حساسية مفرطة من تأسيس وضع سياسي أو شرعي على خلفية النسب.
مات سعيد ودفن في مقابر آل البنا، وخلّف ولدين كلاهما لا ينتمي فكراً ولا تنظيماً لجماعة جدّه: هاني سلفي محافظ، أما طارق، المنفتح على اليسار الجديد والتيارات الليبرالية، فهو أهم مفكري ما صار يعرف بـ«الإسلام الأوروبي».
سيف الإسلام هو الابن الوحيد. محامٍ ميسور، لكن مصدر دخله الأكبر من أعمال واستثمارات غير المحاماة. أشهر مرشح إسلامي في نقابة المحامين وصاحب عدد الأصوات الأكبر في كل انتخاباتها! كان عضواً في مجلس شورى الإخوان، لكنه لم يعرف عنه أنه تبوأ موقعاً تنظيمياً بالجماعة... سيف الإسلام إلى قبل مرضه وابتعاده عن الحياة العامة هو «ذكرى» المرشد المؤسس، وبعض من «رائحته»، ولم يكن يُنظَر إليه يوماً في الجماعة على أنه قائد أو مسؤول. وهو في الانتخابات البرلمانية والنقابية «بركة» الجماعة التي تحلّ على قوائم مرشحيها فتأخذ بها إلى الصدارة.
سيف الإسلام هو في مقام «الوصيّ» على حسن البنا شخصاً وفكرة. يشعر بهذا ويمارسه دوماً. فهو يحوط كل ما يتعلق بتراثه وميراثه بحرص شديد، ويطارد كل من تسوّل له نفسه الاقتراب من هذا التراث من دون إذن منه، وهو في كل الأحوال لا يمنح إذناً لأحد! لديه دائماً النية في خدمة تراث والده وإحيائه وإكمال مسيرته، لكن «الظروف» لا تسعفه.
سيف الإسلام الذي تزوج بتركية، وأنجب منها ولدين وابنتين لا صلة لهم بالإخوان، ابتعد هو الآخر عن الإخوان في السنوات الأخيرة. كان المرض سبباً من أسباب كثيرة، لكن يبقى إحساس بـ«المظلومية» يسكنه، وإن قليلاً ما باح به.

* باحث في شؤون الحركات الإسلامية