نهلة الشهال


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

مضى وقت على تداول فكرة الضربة العسكرية. رُجّحت واستُبعدت ورُجّحت، وهكذا. وفي كل مرة، كانت هناك عناصر لتبرير التوقعات المتعاكسة، وكان أصحابها جميعاً على القدر نفسه من الاقتناع العميق بصحّتها. ثم انفجرت الأزمة الاقتصادية العالمية، وبدت الولايات المتحدة، وهي تحتل نقطة القلب من الزلزال، أبعد ما تكون عن القدرة على الدخول في مغامرات كهذه. ثم انتخب أوباما ومعه انحسر الظل الثقيل لمجانين الحرب الحاكمين في واشنطن. ثم قيل تفعلها تل أبيب منفردة، وإن شكلاً. ولكن احتقار إسرائيل لمطالب الإدارة الأميركية الجديدة راح، بالعكس، يستجلب الأضواء على ما ستفعله واشنطن حيالها، ولا سيما أن الرئيس أوباما ركّز مجهوده في مقاربة العالمين العربي والإسلامي على رسم صورة له مضادة لسلفه. ورغم استمرار كل هذه المعوّقات المنطقية لأي ضربة عسكرية تصيب إيران، عادت نغمتها قوية هذه الأيام. ذلك أنه ربما ليست تلك هي الحسابات المنطقية الحاكمة لمثل هذا القرار!
فهناك على ما يبدو محاجّات أخرى ممكنة: بعد يومين، ستجتمع طهران مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتشير كل التوقعات إلى «فشل» ينتظر الاجتماع، بمعنى بقاء كل طرف على مواقفه. وتحتل هنا موقع التشدد بلدان أوروبية، كفرنسا، تسبق الولايات المتحدة وتزايد عليها. ويشار أيضاً إلى هدية أوباما لروسيا، أي إلغاء مشروع نشر الدرع الصاروخية الأميركية في تشيكيا وبولندا، وأن موسكو مضطرة لمبادلة الهدية بمثلها. كما يرد في الاعتبارات أن ترسيخ النظام الدولي البديل، الذي يسعى أوباما إلى تظهيره، يحتاج إلى عمل مشترك منسّق. وهناك تقدم على هذا الصعيد في ملفات كالبيئة، وقرار اجتماع بتسبورغ استبدال قمة الثمانية بقمة العشرين، ما يعني إشراك دول الجنوب «الناهضة» في القرارات الاقتصادية الدولية... لكن الحكماء يقولون إن هذا المناخ الدولي لا يسمح بضربة عسكرية لإيران، بل بإقرار عقوبات قاسية. وإن التهديد بعدم استبعاد العمل العسكري، الذي خرج به نائب الرئيس الأميركي منذ أيام، يهدف إلى التهويل للحصول على توافق على ما هو أدنى، وإن بلداناً كروسيا والصين ستُحرج وتضطر للقبول، بناءً على ما يُقدم كتعنّت إيراني متمادٍ. وهذا صعيد أول يشير إلى منعطف وشيك في التعامل مع إيران. قد نصرخ قدر ما نشاء أنه كيل بمكيالين، بدلالة السلوك الإسرائيلي. ولكن من ذا الذي يعتقد أن السياسة الدولية ليست بمكيالين؟
وفي الجدل بشأن التشدّد مع إيران، بدءاً من العقوبات وانتهاءً بالضربة العسكرية، وهما قطعاً ليسا من طبيعة واحدة، يرد اعتبار أن النظام الإيراني اهتزّ إثر مجابهات ما بعد الانتخابات الرئاسية. ليس هو بضعف، بل بانت إلى العلن تناقضاته. كما استنفدت حدود التركيز على «النقص في الاحترام الدولي» الذي يحيط بأحمدي نجاد، فيما يلْتفّ هذا الأخير على هذا المعطى بمزيد من الاستفزاز، راكلاً إياه مرة إثر مرة. استهلكت اللعبة وينبغي أن تصل إلى طور آخر. يصرخ المجنون ليبرمان أنه «ينبغي وضع حدّ فوري للنظام الإيراني المجنون». يقال إن المعادلة هي «ديمونا مقابل نتانز»*. ولتأكيد ذلك، جرى البارحة تجريب إطلاق صواريخ إيرانية جديدة، أبعد مدى من سابقاتها، ومنصّات إطلاق أكثر تعقيداً. أما أطرف التعليقات على هذا الحدث، فذاك الصادر عن الدبلوماسية الفرنسية الآمرة بأن توقف إيران كل نشاطاتها «المخلّة بالاستقرار»! مفهوم جديد، يوسّع دائرة العيوب التي تلام عليها هذه الأخيرة. كما قوبل كشف إيران بنفسها لوجود مفاعل آخر، غير نتانز، مشاد قرب مدينة قم**، بردّ لا يقل طرافة: تجهيل الكاشف والتصرف كأن المكتشف هو من يلاحق طهران على برنامجها النووي. أو، في رواية أخرى، اعتبار «الاعتراف» بوجود مفاعل آخر دليلاً على وجود سواه، فمن يدري؟! وهكذا، تغلَق من أمام طهران منافذ حسن النيات، ويجري اعتماد سلوك الحشر في الزوايا الضيقة.
وهناك كمّ هائل من المحاجات «الاستخبارية» (المبتذلة)، تلك التي تدّعي التعلق بخفايا الأمور: زيارة نتنياهو السرية لموسكو، ادّعاء الخبراء المتكاثرين كالفطر أن تخصيب اليورانيوم الإيراني وصل إلى اللحظة التي توصف بأن «أيّ فعل قبلها كان مبكراً وسيكون أيّ انتظار بعدها متأخراً»، على ما قال يوماً موشي ديان في ما يخصّ حرب 1967، بينما يقارن «خبراء» آخرون اللحظة بالضربة الإسرائيلية لسوريا عام 2007... إلى آخر ما يبدو أنه تحليلات وظيفتها ليست في دقة ما تقول، بل في العمل على جعل الفكرة أليفة. وفي رواية أخرى، أن سخف بعض التقديرات المرمية في السوق يهدف إلى تضييع المسؤولين الإيرانيين، الذين قد يجنحون نحو الاستخفاف بهذه الترّهات تحديداً، ما يغلّف الواقع بضباب مموّه، ويخلق الشرط اللازم لأي عمل عسكري ناجح: المفاجأة!
والمؤكد الوحيد من كل هذا الكمّ من النشاط التكهّني المتضارب، هو أن نتائج التصعيد مع إيران اليوم، مهما كانت، لا يمكن مقارنتها بما جرى مع العراق، (كما توعز تركيا): كل شيء اختلف. فلنبدأ من هنا.
* الرجاء من المعنيين البحث عن موقع آخر، فديمونا مخلى ومتوقّف عن العمل منذ سنوات!
** الرجاء من المسؤولين الإيرانيين ألا يظنّوا أن القرب من مكان مقدّس يحمي أيّ شيء على الإطلاق.