حسن خليل


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

عذراً إذا أعدنا ترجمة ما أورده وليام طومسون، وهو مؤرخ عاش في لبنان سنة 1870، ملخّصاً لما يلحق: «في لبنان 400,000 نسمة في 600 بلدة وقرية. الأديان والمذاهب تتعايش وتمارس معتقداتها المتناقضة، لكن دون انصهار بين المناصرين، ولا أخوّة. السنّة لا يتواصلون مع الشيعة، والاثنان يكرهان الدروز، والثلاثة يحتقرون المسيحيين. الموارنة لا يحبّون أحداً بوجه خاص، وبالتالي الكل يكرههم. الأرثوذكس لا يطيقون الكاثوليك، والجميع يكره اليهود. الملاحظات نفسها تنطبق على المجتمعات الصغيرة الأخرى. لا رابط توحيدياً يجمعهم، ولو كان لمصلحة الجميع، بل انقسامات مستمرة. لا دولة في العالم تماثل هذا البلد في الانقسامات، وبالتالي سيبقى هذا البلد عاجزاً عن إرساء حكم فيه ومعرّضاً لغزوات وقمع من قوى الخارج. هكذا كان الواقع، وهو كذلك الآن، وسيبقى بلداً عاجزاً، فئاته متقاتلة، وفي انحدار مستمرّ».
الهدف ليس إعادة كتابة ما يعرفه العديد من المثقفين والباحثين في علم الاجتماع اللبناني، لكنها محاولة أخرى لتحليل أسباب هذا الانحدار الفكري عند البعض، إن لم يكن عند أكثرية شعب وصل إلى حافة الزوال مرات عدّة، ولم يعتبر من تجاربه.
لتأكيد التخلّف المنهجي في الفكر اللبناني، يجب النظر إلى الممارسة اليومية الاجتماعية والحياتية للبنانيين في الخارج والداخل.
اللبنانيون في الخارج لا يتخلفون عن متابعة «الإعلام اللبناني الحضاري» الذي يختلف عن «الإعلام العربي المتخلّف الذي يظهر فقط طهارة الحاكم بأمره»، لأن التلفزيون اللبناني لا يغنيهم في استقبالات رئيس واحد فقط، بل ثلاثة رؤساء، فضلاً عن نشاطات الزعيم المعصوم (الداعم أو المالك للمحطة) والزعيم الروحي (العرّاب للمحطة)، فلا تفوته بذلك «المسحة الإلهية في السياسة اللبنانية». هؤلاء اللبنانيون هم أنفسهم الذين قد لا يتعرّفون أو يعرفون رئيس الدولة المضيفة لهم لقلّة ظهوره إعلامياً. هم أنفسهم في عواصم العالم يجتمعون في مآدب العشاء والسهرات، يتحدثون في السياسة الدولية، من الإمبريالية إلى الشيوعية، مروراً بأزمات الكون جمعاء. يبحثونها في العمق بمنطق حضاري تجريدي، يناقشون كأصحاب خبرات مديدة في العلوم السياسية والعلاقات الدولية والاقتصادية. يتوصّلون إلى ربط التخلّف في أفريقيا بالعولمة، ويبحثون في علاقة تركيا بملف الناتو، ويغوصون في تعقيدات الاتحاد الأوروبي ويحلّلون مشاكل المجتمع المحلي الذي يعيشون فيه، من الضمان الصحي إلى أزمة الميزانية. هم ضالعون في خلفيات الأزمة المالية العالمية أكثر من ألان غرينسبان.
هؤلاء اللبنانيون أنفسهم يفركون الأيدي ويقلّبون الشفاه عند الحديث عن الدَّيْن اللبناني وأرقامه ونسبه المالية، خوفاً من تخطّي الخط الأحمر الذي رسمه لهم عرّابهم الطائفي الذي ينتسبون إليه في «الكيان الجغرافي» المسمّى لبنان. سهراتهم تنقلب من سمر إلى صراخ إلى حد الاشتباك الجسدي عند بحث الواقع السياسي في لبنان. ينقلب المهندس والمصرفي ورجل الأعمال وعالِم الذرّة منهم إلى مسيحي ومسلم وسني وماروني وشيعي ودرزي وأرثوذكسي... في لحظة واحدة يفقد الفرد منهم كل المفاهيم الديموقراطية والحضارية بتساوي الإنسان مع أخيه الذي زرعه المجتمع الذي اغتربوا إليه فيهم. يصبحون قبليين بانتمائهم إلى عائلات ما (أهم من أرقى العائلات الغربية)، ومناطقيين لأنهم من منطقة في «الكيان الجغرافي» أهم من أكبر العواصم العالمية، وطائفيين فوق الخيال.
كما في الداخل، كذلك في الخارج. ينتظرون زيارة من زعيمهم السياسي أو الطائفي لعاصمة وجودهم. ينتظرونه كالفاتح. يشعرون بوجوده جنبهم بالقوة والضمان ولو كانوا في أكثر عواصم العالم أمناً. ينفش الواحد منهم ريشه كالطاووس لأن الزعيم عرفه شخصياً وشدّ على يده بالسلام، ناسياً أن الطاووس الوحيد الذي له حق نفش الريش هو الزعيم نفسه. يحتاج إلى مَن يذكّره بأنه لو كان صوصاً حيث هو أشرف له بحقوقه (وواجباته) ممّا يتصدّق عليه الزعيم وهمياً في وطنه.
المسيحيون والمسلمون في الخارج يختلفون مع اختلافات الداخل، ويتصالحون عندما تحل بركة المصالحات. كما في الداخل، كذلك في الخارج. لا مساءلة ولا محاسبة. إذا كان لا حيلة للبنانيي الداخل بسبب ابتزاز الزعامات لهم، فما هي حجّة لبنانيي الخارج المفروض أنهم تحرّروا من عشائريتهم واستفادوا من خدمتهم في المجتمع المدني؟
هل هي صدفة أن تجربة الجامعة الثقافية اللبنانية في العالم كانت فاشلة وتشعّبت إلى جامعات متعددة، كلّ يدّعي رئاستها؟ وهل طبيعي أن الاغتراب في عواصم العالم ينتظم في جمعيات للجاليات إلا للجاليات اللبنانية. وبدلاً من أن تكون هناك جالية لبنانية في عاصمة ما، يعوَّض عنها بجمعيات محلية طبقية ومذهبية مبطّنة بالثقافة، تنتقل من خلالها الفوارق الطبقية والعنصرية في المجتمع اللبناني المقيم إلى اللبناني المغترب.
اليوم المصالحات في لبنان على قدم وساق. وليد جنبلاط يستهزئ من شعار السيادة والحرية والاستقلال، ويطالب بعلاقات مميزة مع دمشق. الجميّل يزور فرنجية والعكس. المشايخ الدروز يزورون المرجعيات الشيعية. سعد الحريري يلتقي بري. إذاً أين الخلاف والاختلاف؟ الانتخابات انتهت ومعها شعاراتها. وكما أن هناك سرقات في لبنان بدون سارقين، كذلك الكل يطالب بالنسبية في قانون الانتخابات الجديد وإلغاء الطائفية السياسية. هل يصدّق لبنانيّو الداخل والخارج ذلك؟ هل يُصدر سلاطين القوم فعلاً تشريعات تلغي مبررات وجودهم؟
مساكين مواطنو «الكيان الجغرافي لبنان» ومغتربوه. ما دمتم تحبّون جبران، اسألوه لماذا كتب منذ حوالى ثمانين عاماً: «ويلٌ لأمّةٍ مقسّمةٍ إلى أجزاء يحسب كل جزء فيها نفسه أمّة».
قد يكون الحل باللجوء إلى أهم المختبرات الدولية لإجراء تجارب رائدة على التركيبة الجينية (والجنيّة) للّبنانيين أينما وُجدوا...