3 سنوات مرّت على حرب تمّوز. بعد مرور كل هذا الوقت، بات ممكناً القول إنّ الاضطرابات النفسية التي خلّفتها، لم تعد كما كانت، وإن جزم أهل الاختصاص بصعوبة الفصل بين ما سبّبته الحرب، وما تراكم من جولات عنف أخرى
راجانا حمية
في تموز عام 2006. لم تقتل حرب تموز فقط 1170 شهيداً. بل قتلت الحرب الشرسة، وهي من الحروب النادرة التي تميزت بكونها موجهة ضد المدنيين، السلام والأمان النفسي لكتلة من السكان لا يمكن تقديرها اليوم. هل استمرت الاضطرابات النفسية الناجمة عن الحرب؟ وهل هي تعود فقط إلى الحرب الأخيرة؟ أسئلة ربما لن يجاب عنها اليوم بسبب غياب المسوحات الميدانية، بعد الدراسة اليتيمة الوطنية التي أجراها بعد تسعة أشهرٍ على «تموّز الأسود»، رئيس الهيئة اللبنانيّة للعلوم التربويّة عدنان الأمين. عنوان الدراسة التي صدرت في كتاب كان «الأحوال النفسيّة للأطفال والشباب في لبنان بعد حرب تمّوز»، وهدفها كان تقويم الأحوال النفسيّة لهؤلاء، وما إذا كانوا يعانون اضطرابات. وقد شملت هذه الدراسة عينة من 6632 تلميذاً، اعتمد الأمين في اختيارها قواعد إحصائية تجعلها ممثلة لتلاميذ لبنان، من حيث القطاع والمحافظة والمرحلة التعليمية وحجم المدرسة والجنس.
أظهرت الدراسة صعوبة في إقامة صداقات والاحتفاظ بها
بعد 7 أشهُر من العمل، خلص الأمين إلى استنتاج جملة من «أعراض ما بعد الصدمة» التي يعانيها الكثيرون ممن عاشوا الموت والرعب طيلة 33 يوماً متواصلة. هكذا أظهرت الدراسة أن نسباً عالية من الأطفال والشباب تعاني أعراض التوتر والقلق بنسبة 28%. وإن كانت هذه النسب قريبة جداً من المتوسطات الحسابيّة المعروفة عالمياً في البلدان التي شهدت حروباً ونزاعات، فإنها تبقى أقل من رواندا مثلاً، حيث وصلت النسبة فيها إلى 70%. ولعلّ أبرز عارضَين تبيّنهما الدراسة هما عارض «الاستثارة» (مشكلات في النوم والانفعالية وصعوبة التركيز وفرط الانتباه والإثارة الفيزيولوجية إزاء المحفّزات المتصلة بالصدمة) وعارض «الاسترجاع» المرتبط باسترجاع وقائع الحدث والإحساس كأنه يتكرر، ومعاودة عيش الحادث. وفي المشكلات السلوكيّة، أظهرت الدراسة أن نسبة الحالات العياديّة بين التلامذة في «الاندفاعيّة العدائية والتشتت» بلغت النسبة الأعلى، إذ وصلت إلى نحو 15%، فيما بلغت نسبة المشكلات النفسية الجسدية (التوتر العضلي والقلق) حوالى 9,4%. ولئن كانت النسب المذكورة تختلف بين الفئات بحسب العمر أو الجنس، فإنّ الدراسة أظهرت تشابهاً بين هذه الفئات في ما يخصّ الصعوبة في إقامة صداقات والاحتفاظ بها. بعد عرض مفصّل للمشكلات النفسية التي يعانيها الأطفال والشباب، أفرد الأمين لكلّ مشكلة سلسلة من الحلول، ولعلّ أبرزها «عامل التكيّف مع الحرب على اعتبار أنّ لبنان يعيش حروباً متتالية ولا يزال، إضافةً إلى عامل القضيّة المتمثلة في التذكير دائماً بمقاومة إسرائيل».
اليوم، بعد ثلاث سنوات على تلك الحرب وسنتين على دراسة الأمين، كيف أصبحت الحال؟
لا يملك صاحب الدراسة اليوم جواباً شافياً عن هذا السؤال، لكنّه يستنتج أنه «بعد تلك السنوات لا بدّ أن تخفّ حدّة الأزمات النفسية التي عاناها الكثيرون بسبب حرب تموز». ليست هذه «نظرية جديدة». هذا ما يقوله الأمين. أما السبب؟ فيتلخّص في أن صاحب النظرية يستند إلى «التحليل المنطقي» الذي يقول إن الصدمات تخف مع مرور الوقت.
وبعيداً عن عامل الوقت الذي يعوّل عليه الأمين للتخفيف من حدة ضغط ما بعد الصدمة، يجد هذا الأخير سبباً آخر لهذا التحليل، وهو لبنان. ففي هذا البلد، «يسهم مجموع الأزمات المتمثلة في الانفعال السياسي وبروفات الحرب المتنقّلة بين المناطق في امتصاص المشكلات الفردية، وتفتيت المشاعر بين الأحداث والتقليص من حدّة الأعراض».
لكن يدرك الأمين أنّ هذه الأعراض لا بد أن تعود إلى وهجها في المناطق التي تتجدّد فيها الأزمات، كما هي «حال بعض سكان بيروت بعد أحداث أيار وعائشة بكار». فهنا تتجدّد المشاعر المرتبطة بالخوف، ويعود الأشخاص إلى استرجاع ذكريات الحرب التي عاشوها. ويرتبط سبب عودة تلك المشاعر أو نهوضها «بالأشخاص الذين يعانون شعوراً أقل بالحماية».
ومن أجل ذلك، يعوّل الأمين على المركز الوطني للدعم الوطني للأطفال والشباب، الذي ستنشئه الهيئة اللبنانية، بتمويل من الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية، والذي قد يبصر النور أواخر العام الجاري بعد انتهاء الصندوق من الإجراءات القانونية والإدارية.
هذا الصندوق، إن إنشئ، فسوف يكون أول أهدافه الإجابة عن التساؤل التالي: هل زادت حدة الاضطرابات النفسية؟ أم أن عامل مرور الزمن، كما قال الأمين، خفّف من حدّتها؟