أحمد محسنلولا كتب القراءة في المرحلة الابتدائية لما سمع كثيرون بميخائيل نعيمة. جهدت العولمة في محو كل ما سبقها تقريباً. هكذا مثلاً، يصبح ارتباط نعيمة بالذاكرة، في هذه الحالة، ارتباطاً بمرحلة الطفولة، لا بالكاتب بحد ذاته. العولمة جروٌ ضخم. ينمو سريعاً ويعضّ بقسوة. ينبح على الفضائيات المذهلة بلا توقف. وبعد أعوام، يصعب تقديرها بدقة، ستُسحق طفولتنا تماماً، بفعل الميديا والفايسبوك. لا يمكن نكران تأثير الرسوم المتحركة وفضلها علينا، في وطن السياسة المعقدة. بيد أنّه رغم جهودنا في تخزين الكمّ الأكبر الممكن تخزينه من الصور في رؤوسنا، أضاعت الحروب كل شيء. اختفى «غراندايزر» لحساب المحلّلين السياسيين. أخذوا مساحته من وقتنا، الرخيص طبعاً. مات السنافر كلهم بأنفلونزا الخنازير، وشرشبيل يعربد في البرلمان. يقولون في الصحف إنّه خفيف الظل، رغم سماجته. شرشبيل الأصلي، كان طيباً مقارنةً بشبيهه المحلي. توم صار وزيراً وجيري صار شعباً كاملاً، إلا أن النهايات ليست سعيدة دائماً. انتحر رجلٌ أمس، لأنّه لم يجد عملاً. تخيلوا طفولته، كم كان بسيطاً. ربما ظن أنّه سيطير كسوبرمان. وبالفعل، قفز عن الطابق العاشر يائساً. حاول استعادة ما تسنى له مما حرمته إياه الأزمة الاقتصادية العالمية. حتى علبة البيكون الصباحية التي صارت بقوة الإعلان الضاربة جزءاً من ثقافتنا اليومية، فقدت طعمها اللزج. الدورة البشرية طبيعية هنا. تكبر الأسنان، لتصبح أنياباً. وفي الحديث عن الأسنان، ما زال إعلان الليسترين هو الألطف، رغم كثافة السيليكون على الشفاه الجديدة. وكي لا ننسى، كما نسينا مئة طفل في قانا، تضاعف عدد قنابل جيش الاحتلال ملايين المرات على رؤوسنا، ولم يشدّ ذلك انتباهنا فعلاً. الموسم السياحي أهم في الحقيقة، وعلى المخبولين الذين يكرهون ثقافة الحياة، أن يفهموا ذلك. الأخيرون ليسوا أفضل بالمناسبة. أسهموا في نزع الموسيقى من وجوهنا، بالأمر، بالقتال، وبالنهي عن الفنون. لا مكان للاعتدال بعد مرحلة الطفولة. يكثر الحديث عن الموت في الكبر: قبوركم تنتظركم ها هنا، يا شهداء المستقبل. Game over، ستُستشهدون جميعكم. ستحصلون على هذا اللقب كجائزة ترضية، حتى لو متّم في حادث سير، أو عارض صحي، أو حتى مفرقعة كبيرة الحجم، ضلت طريقها عمداً وعبرت حدود المذاهب. حصل ذلك أكثر من مرة. للطفل أن يحسب الرشاشات الحربية دمى بديهية الوجود، وله حين يكبر في بيروت، أن يتيقن من ذلك.
ينسحب المشهد على الحرب الأهلية، التي نخر أزيزها مراهقتنا. لم نعرفها عملياً، كنا ـــــ من أبناء جيلي وصعوداً ـــــ أطفالاً. في الواقع لم يتغير شيء. استبدلت الميليشيات ثياب الصدم بربطات عنق، وتسلح المجتمع المدني بالبؤس لمناهضتها، والحمد لله كان فشله ذريعاً. تخدّر الجزء الباقي من رؤوسنا. الجزء الذي سمع عن الحرب، وبحث تلقائياً عن صورة لها، فوجدها جاهزة في السينما المحلية الفاشلة، وقبل كل انتخابات نيابية. مجدداً، يصبح الحاضر قتالاً. يصبح ارتباطناً بالحرب، ارتباطاً بـ«واقعية» المرحلة حينها، لا بالحرب عينها. وعلى أية حال، الحرب هي الصورة الوحيدة التي تعيد إنتاج نفسها. لكن لا بد لنا من عودة إلى الطفولة، لتكتمل الميلودراما الوطنية. الحياة لحظة.