وائل عبد الفتاح


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

بالتأكيد هناك أشياء لا نراها تدفع الأحداث وأبطالها إلى مسارات مفاجئة. وليد جنبلاط في انقلابه على ١٤ آذار لا يعبر فقط عن هوايته الشخصية في تغيير المسارات والإفلات من التحالفات. لكنّ هناك شيئاً ما في المسافة من ١٤ آذار و٨ آذار، شيئاً في تماسك الطرفين معاً. جنبلاط ربما سيكون فاتحة فرط العقد. وفي الوقت نفسه ربما يدفع شخص جنبلاط ومزاجه الحاد والمتقلب إلى «توحيد» كل معسكر. لكن هناك شيئاً لا يرى في هذه الخطوة التي لم تكن مفاجئة كاملة. كما هي أيضاً تصريحات الرئيس مبارك عن رفض مصر إقامة قواعد عسكرية أميركية على أراضيها.
التصريح ليس جديداً. التوقيت هو الجديد. قبل زيارته لواشنطن وبعد تسريبات عن اجتماع بين ٧ دول عربية لإقامة «مظلة دفاعية»، يبدو أنها في إطار خطة استبدال الوجود العسكري المباشر بأشكال أخرى.
مبارك لم ينقلب على أميركا. كما أن جنبلاط لا يرمي نفسه وطائفته ومن يرتبط به في أحضان ٨ آذار ويعترف بالتوبة عن مشروع «المستقبل»، لكنه يختار استقلالية تناسب الشروط المعقدة لطائفته. كما أن مبارك يختار استقلالية تناسب الظروف المعقدة لخلافته. ظروف تتعلق بالقوى المحيطة بقصر الرئاسة وبنوازع عائلته للاستمرار ورغبات شرائح من أصحاب القامات المالية في وصول ابن الرئيس (جمال مبارك) إلى السلطة.
الأشياء التي لا نراها تجعل الانقلاب ليس انقلاباً كاملاً. جنبلاط لم يغير مواقفه رغم أن جعجع اعتبر انسحابه «تقديم أوراق اعتماد للسوريين واللبنانيين».
كذلك فإن تصريحات مبارك لا تعني غياب مصر عن طاولة «المظلة الدفاعية». وبالعكس عندما حاول وزير الخارجية أحمد أبو الغيط تكذيب مشاركة مصر، أدخله في معركة مع مصادر صحافية نشرت محاضر اجتماعات حالية بين ٧ دول في إطار ما يعرف بـ«ترتيبات أمن الخليج».
صحيفة «الشروق» أوردت على لسان مصدر مطلع أن الكلام عن المظلة الأميركية لا يتعلق فقط بتصريحات الوزيرة هيلاري كلينتون بل بترتيبات ستدخل مرحلة التنفيذ عندما تتأكد «العواصم العربية من اختلال التوازن الدفاعي لمصلحة إيران بإعلان حصولها على القنبلة النووية».
هكذا اعتمد الرئيس مبارك ووزير خارجيته على المسافة بين ما يمكن أن يُعرف والأشياء التي لا نراها. وهي مسافة واسعة جداً في العالم العربي. وتحوّل السياسة غالباً إلى سيرك والسياسيين إلى بهلوانات يقفزون بين المتناقضات بمهارة تدهش أشد المعجبين بهم.
ربما تكون هذه هي الخفة المطلوبة الآن بعد سنوات من الثقل. خفة لا تخدم أصحابها ولكنها تجعلهم الجسر إلى أفق تغيير لا يعرف مداه. فالحدود تنفلت حتى لو بدت السيطرة كاملة والمعسكرات مغلقة على المتحالفين. ١٤ آذار لم تعرف كيف تحافظ على ساحرها الدرزي، رغم أنها انتصرت في الانتخابات. ورغم انحسار بعض الجاذبية من معسكرات «الممانعة» بعد وصول أوباما إلى البيت الأبيض.
لماذا غادر جنبلاط المعسكر المنتصر؟ ولماذا لا يفخر مبارك بمشاركته في «المظلة الأميركية»؟ وماذا سيفعل أبو مازن بعد مؤتمر «فتح»؟ هل سيبتعد أكثر عن «حماس»؟ هل سيقترب من «السلطة» أكثر؟
المؤتمر لافت في استعراضيته. وغامض في رسالته إلى العالم. هل هو «نوبة صحيان» عابرة أم يقظة متأخرة، أم أنه شيء لا يرى يحرك «فتح» إلى اختيارات أخرى عكس المتوقع. رئيس «الموساد» السابق قال إنها ربما إعداد لـ«انتفاضة ثالثة». ودحلان المتهم بالمشاركة في لعبة السم الإسرائيلية مع عرفات هو مهندس المؤتمر الذي يسعى إلى تأسيس جديد للحركة وسعي للحرية والاستقلال.
دحلان هو المؤهل لتأدية القفزات، حتى وإن كانت «انتفاضة ثالثة» أو انتزاعاً لأدوار متشددة احتكرتها «حماس» في السنوات الأخيرة. أبو مازن لا يمتلك مهارات القفز ولا خفة تحويل «فتح» إلى حزب للسلطة. لكن دحلان ممسوس بالأدوار الصعبة والسرية واللاعب المشحون بخبرات القفز بين مؤسسات الرعب السياسي.
ربما يدرك دحلان الفرصة المتاحة أمامه ويخطط لما يمكن تسميته انقلاباً على نفسه أو على تحالفاته. ونفاجأ بحدث تسمية نشرات الأخبار تحولاً، وهو استجابة لأشياء لا نراها ولا تجعل المنتصر منتصراً ولا المتحالف مع «الأعداء» عميلاً إلى ما لا نهاية. والأيام المقبلة هي مرحلة السيرك السياسي المفتوح، حيث كل شيء متوقع ولا شخص في مكانه المعتاد عليه.