عبد الأمير الركابي *هكذا تكون المقدمات في الغالب، وخاصة حين يختلط العجز بالذهول أمام متغير هو أقرب إلى استحالة تخيّل العقل لها. فاندثار دجلة والفرات بالنسبة للعراقيين يقرب ربما من انطفاء الشمس، أو امّحاق القمر. الآخرون على اتساع العالم، وأولهم المهتمون بالتاريخ القديم وبدايات حضارة الإنسان، سيصابون بالصدمة ويحتارون أمام المعنى الرهيب، غير المفهوم لاقتلاعات التكنولوجيا الحقيقة الحيوية للكوكب. الأرض بالطبع، بحسب المختصين بها وعشاقها، كائن حي ومتغير، له قوانين نموّه واندثاره، لكن تدخل التكنولوجيا يمكن أن يحول حقائق الجغرافيا، وحقوق الملكية والتصرف بمنابع المياه إلى انقلاب مرعب يمزق ثوابت الطبيعة وعلاقة الإنسان بالمحيط. والمشهد الذي يتركه الفعل التركي، أسطوري لدرجة أنه يمكن أن يدوّي في قلب القرن الواحد والعشرين بحيث يعيد تجسيد غلغامش أو شهرزاد ويجعلهما حاضرين الآن.
لكن توقُّع ثورة في الضمير الإنساني، ليس بالأمر العقلاني. وأقصى ما يمكن انتظاره لاحقاً بضع مقالات، وربما كتاب أو أكثر، ترينا كيف غاب الرافدان وألغيت سومر وبابل وبغداد من سجل التاريخ والعالم. وحتى ذلك الحين، سنسمع أصواتاً يطلقها مفجوعون عراقيون يريدون إرسال انتحاريين، أو إطلاق صواريخ على السدود التركية العملاقة... مزيد من الحروب ومزيد من بواعث الحروب، بينما يبلغ الرد الغريزي على المستحيل ذروته: إذا انطفأت الشمس، ماذا نفعل؟

السنوات الثلاث الباقية كافية على الأرجح لجعل العراق يدفن تحت طبقات من الرمل الناعم
في عام 2012، يكون العالم قد انتهى وفق توقعات الفلكيين والأرصاد، لأن كوكباً دواراً سوف يأتي ويتخذ موقعه بين الأرض والشمس. وهو يمتاز بطاقة مغناطيسية هائلة. وقتها ستقوم القيامة! إذاً لم يعد أمامنا الكثير من الوقت. قبل ذلك بسنة، يفترض بالقوات الأميركية المحتلة أن تكون قد غادرت العراق. وبعد سنة أخرى، سيعاقبهم الله وهم في بلادهم ويعاقبنا معهم، بينما سيختم العالم على الاحتلال الأخير لأرض تركها الغزاة وهي في النزع الأخير. هكذا تصبح المصائر مرتبة بسلاسة قدرية.
بدأ العالم في جنات عدن، وحين ماتت من العطش شجرة آدم، التي في «القرنة» عند ملتقى النهرين، واندثر النهران، أذن الله بالخاتمة. ستكون هنالك والحالة هذه للعراقيين، فرصة التنعم بالشرف مقابل العطش، فهم بدأوها وهم أنهوها.
تلك عناصر أسطورة جيدة لمن سيبقون أحياءً يرزقون. لكَم توحي بلاد ما بين النهرين الآيلين للاندثار بالمعاني والمصادفات المذهلة. تقول التقديرات إن 70% من البشر سينقرضون بسبب الخراب الرهيب الذي سيسببه الكوكب القادم عام 2012، وتقارير أخرى ذكرت بأن 70% من سكان بغداد سينقرضون بسبب التلوث والأمراض الناجمة عن تردي أسباب الحياة.
لماذا هذا التماثل بالأرقام؟ على أية حال، إذا دمر الكوكب ومات ثلثا البشر، ستتغير النسبة المذكورة بخصوص العراق، وبغداد بالذات. ولن يعود هنالك وقت للتثبت من النسبة أصلاً.
يبدو أن المهمة التي يتيحها لنا الوقت الباقي، ونستطيع تأديتها، لن تتعدى محاولة صياغة أسطورة البدء الثاني وإهدائها للبشر الباقين بعد عام 2012. ولنأمل أن يكون لدى هؤلاء الحافز كي يبحثوا تحت التراب. فالسنوات الثلاث الباقية كافية على الأرجح لجعل العراق يدفن تحت طبقات من الرمل الناعم، لأنه ببساطة سيشهد عواصف رملية لا تتوقف طيلة فصل الصيف وجزءاً من الربيع وحتى الخريف، والتربة الصحراوية سوف تنتقل من الغرب إلى الوسط، والسبب أن حركة الآليات والدبابات وسواها خلال الحربين وبعدهما قد خلخلت القشرة الأرضية الرقيقة وضعضعتها، ومع تناقص مساحات الأحزمة الخضراء وشح الماء، أنعمت الآلهة على العراقيين بغطاء من الرمل يسد مجال الرؤية، ويقتل المصابين بالأمراض الصدرية، ويحول البيوت مهما احتاطت إلى مخازن للأتربة. وهذا، بحسب تفسيرات عرّافين كبار، أحد علائم النعمة التي ستؤدي إلى قتل التلوث وتزيل بقايا أثر اليورانيوم المنضب، الذي يقال إن مفعوله لا يزول قبل ملايين السنين. وهكذا تقل نسبة الإصابة بالسرطان التي هي الأعلى على مستوى المعمورة الآن.
حين يباشر العرّافون وكتبة المعابد كتابة «قصة الخليقة» بعد البدء الثاني، سيجدون أمامهم ما لم يجده أولئك الذين صاغوا قصة الخليقة الأولى والخروج من «العماء» و«الهيولى»، ووثبوا بالوعي البشري مع العقلنة الأولى للكون والعالم عند البدء الأول قبل آلاف السنين. فالسيرة الطويلة لهذه البلاد انتهت إلى الفناء، كما سيرد في الأساطير المقبلة، مع قرب فناء العالم. وسيُقال إن هذه البلاد عرفت كمثل ما يقرب من 21 ألف تفجير، أي ما يساوي كل ما عرفته الكرة الأرضية من أعمال مشابهة على مدى أكثر من نصف قرن. ومع احتساب الفارق في العدد والمساحة، يمكن تخيل ما قد حدث هنا على وجه التقريب، على الأخص إذا علمنا بأن التقارير تقول إن 17 ألفاً من تلك الانفجارات استهدف مدنيين. والتدقيقات هنا مهمة، لأنها تبين كيف أن هذه الأرض قد هُيئت على مشارف القيامة لكي تعيش قيامتها وتشرف على الفناء، وهذا حسب أعظم العرافين، هو السر الذي لم يدركه البشر وقتها وتغاضوا عنه، فلن يرفع أحد منهم الصوت منادياً بإنقاذ بلد من الهلاك؛ فالأقدار توفر الصمت والحماية معاً. ومع غياب النهرين والاندثار تحت الرمال، قد تصبح الحياة ممكنة في قلب القيامة. فالتوقعات تقول إن أكثر الأماكن أمناً عند وقوف الكوكب بين الأرض والشمس هي الصحارى، والعراق سيكون خلال السنوات الثلاث المقبلة صحراء، والناس هناك أقل عدداً، فهم يتناقصون بسرعة بفعل الأمراض والقتل اليومي، بينما السدود التركية ستنفجر وتتطاير، وتركيا ستدمر لأن طبيعتها جبلية، والجبال أكثر عرضة للخراب حسب متابعي وصول الكوكب عام 2012. ووقتها يأتي الطوفان ويغسل الأرض، وكل شيء سيبدو مختلفاً. فالأرض كما يقول الخبراء ستدور عكس دورانها الحالي بعد أن تتوقف أياماً عدة، والشمس ستشرق من الغرب: أي مشهد مذهل! وإذا ظل الواديان حتى ذلك الوقت، ولو من دون ماء، فإنهما سيمتلئان، وتعود الحياة وتزدهر من جديد.
أحد العرافين وضع تعديلاً على توقعات الفلكيين والباحثين فقال: إنّ أكثر المواضع أمناً وقتها هي تلك التي تعرضت للانحدار نحو الفناء على مشارف القيامة، أي تحديداً ومن دون منافس: العراق.
* كاتب عراقي