دينا حشمت
قابلناه لأول مرة وهو يتجاذب أطراف الحديث في ودّ وحميمية مع الشيخ الهلباوي، بعد حلقة إنشادية أحياها الأخير ضمن «ليالي رمضان» بدعوة من «جمعية النهضة» في «مدرسة الجزويت» (حي الظاهر ــــ القاهرة). ثمّ التقيناه في ندوة عن أميركا اللاتينية، أقامتها الجمعية نفسها. عندما طلبنا منه حواراً لصفحة «أشخاص»، رفض في البداية. قال إنّه لا يتحدث إلى الصحافيين، بل يحيلهم على الشباب الذين يعمل معهم. «ثمَّ إنّي راهب في النهاية»، ذكَّرَنا. الحقيقة أنَّك قد تنسى ذلك، فنادراً ما ترى «أبونا وليم» في رداء الرهبان.
في النهاية، أعطانا موعداً، ربما لتفادي إحباطنا. استقبلنا في مكتبه في «مدرسة الجزويت». بحث طويلاً تحت أكوام الكتب والمجلات التي تغطي مكتبه عن كتيِّب أصدره أخيراً بعنوان «لاهوت التحرير الفلسطيني ــــ من وعد إبراهيم إلى وعد بلفور» (مصر المحروسة). على الجدران، صورٌ لأحد عروض مسرح الشارع، صورة للأخ فايز ــــ مسؤول مركز الجزويت في الإسكندرية، الذي توفي وهو في أوج عطائه ـــــ رسمٌ لناجي العلي ضدَّ حكم الإعدام، وصورة لبابا الفاتيكان يوحنا بولس الثاني مع ياسر عرفات.
وسط هؤلاء، يعيش الأب وليم سيدهم، وبهم يكتمل معنى حياته. الرهبنة له ليست اعتكافاً في الصحراء بل عطاء مستمر. يقضي ساعة في التأمل صباحاً، ثمّ يقيم القدّاس، ويعمل ناشطاً اجتماعياً وروحياً في مستوصف الشرابية التابع لـ«جمعية خضرة» التي تشرف عليها الرهبنة اليسوعية، أو مع شباب «جمعية النهضة»، أو مع روّاد «نادي السينما»، الذي أسسه في المدرسة. «صلاتنا عمل وعملنا صلاة» يقول.
21 عاماً قضاها في «مدرسة الجزويت». «سبحان الله. كنت جاي أقعد يوم واحد». لم يكن يرغب في العمل مع «بورجوازيين»، فحاول التعويض عن ذلك من خلال نشاطه «في الشارع، مع الناس، خارج أسوار المؤسسة التربوية التي تستقبل أبناء الطبقة الوسطى». كان قد أقام في هذا المكان، بغرفه الساكنة وأحواشه المهيبة، سنة 1972، فور تخرُّجه من قسم الفلسفة في جامعة القاهرة وتعيينه مدرِّساً في إحدى مدارس محافظة المنوفية. كان يمرُّ حينها بـ«أزمة إيمانية»، كما يسميها. قرأ ماركس وشعر بأنّه «يعبِّر بالضبط عما أعيشه». يحكي والكلمات تتزاحم سريعة بين أنفاس سيجارة «الكليوبترا»: «كنت قاعد هنا، وما أحضرش قداس ولا حاجة... كان الرهبان يحترمونني رغم رفضي للكنيسة ولرجال الدين، واكتشفت هنا عبارة «الله محبة». هكذا، دخل الرهبنة وسافر في 1974 إلى باريس ليكمل دراسته الجامعية ببحث عن ابن رشد. عندما اقترح إجراء دراسة عن «خطبة ياسر عرفات في الأمم المتحدة سنة 1974»، قوبل برفض اليسوعيين الفرنسيين. «أنا جزويتي مصري، مش فرنسي، ويهمني العالم العربي وقضاياه». في النهاية عكف على كتابة بحث بعنوان «قراءة ماديَّة في سان مارك».
في باريس، رافق المناضل الشيوعي محمود أمين في اجتماعات دعم القضية الفلسطينية ووزّع منشورات، محاولاً بصعوبة أن يحترم قواعد الرهبنة القاضية بألّا «يتحزَّب». عندما عاد إلى مصر، دخل الجيش. لم يتحمّل ابن الصعيد أن يكون مُعفىً من واجب قام به أولاد العمّ وجميع إخوته. «ابن عمي شارك في حرب اليمن وبُترت رجله...». نعم، هناك تناقض بين أن تكون راهباً وأن تحمل سلاحاً، لكن «في التعليم الاجتماعي للكنيسة، هناك شيء اسمه الدفاع عن النفس. ليس باسم المسيح طبعاً، لكن من حق أي إنسان أن يدافع عن نفسه. ذهبت إلى الجيش كمواطن في خدمة اجتماعية». يعترف بأنَّها كانت فترة صعبة، «بعد أربع سنوات من الحرية في فرنسا».
أزمة قناعات سياسية، مرّ بها عندما أُرسل إلى لبنان، في تشرين الأول (أكتوبر) 1982، لمدَّة سنتين. «جامعة الجزويت كانت على خط التماس. تعبت». لم يعد يعرف أين اليمين وأين اليسار. لم يغيِّر قناعاته السياسية، لكنَّه بدأ يشعر بأن «هناك فرقاً بين النظرية والواقع». ما زال حتَّى الآن يعتبر ماركس «قديساً»: «كان يدافع عن قيمة الإنسان. مقولته عن أنَّ «الدين أفيون الشعب» صحيحة في مصر، ونظريته عن فائض القيمة أيضاً، فما زال هناك أناس يستغلّون آخرين. سقوط الاتّحاد السوفياتي لا يعني أنّ المبادئ سقطت». الشيء الأساسي الذي لا يتفق فيه مع ماركس هو أنّه يؤمن «بالقيامة وملكوت السماوات».
صغيراً، كان وليم سيدهم يحاول تقليد الرهبان الفرنسيين الثلاثة المقيمين في قريته. كان يريد أن يصبح «ملاكاً» مثل هؤلاء اليسوعيين الذين حاولوا منذ 1945 تحويل جراجوس إلى قرية نموذجية. تعلَّم بكر عائلة سيدهم المكونة من أربعة صبيان وأربع بنات في مدرسة ابتدائية، كانوا هم من أنشأوها. ما زال يتذكَّر كيف كانت إحدى الراهبات تقف في الفصل سنة 1956 وتغني «هانحارب، هانحارب». في سن الـ 13، سافر إلى القاهرة ليكمل دراسته في إكليريكية المعادي، وكان رئيسها من الجزويت. كان اليسوعيون الفرنسيون يحفظون جيداً طقوس القداس القبطيّة، فلم تشغله يوماً الهوية الطائفية أو الدينية.
من أقرب أصدقائه إلى قلبه الراحل أحمد عبد الله، أحد رموز الحركة الطلابية المصرية في السبعينيات. «كان نموذجاً. حتّى آخر حياته، كنت أنا الراهب، بتكسف لما أروح عنده»... مشيراً إلى زهد ذلك المناضل اليساري.
أدار حوارات عديدة مع نشطاء «إسلام أون لاين» المهتمين بلاهوت التحرير، واستضاف أخيراً القيادي في الإخوان المسلمين عصام العريان في ندوة عن كتابه «لاهوت التحرير الفلسطيني»، فهو «مصري قبل أي شيء آخر». يردِّد العبارة الأخيرة مرةً إضافيّة قبل أن نغادر ونتركه في صمت المدرسة الفارغة، تحت الأسقف العالية والظلال الكثيفة، بعيداً عن صخب المدينة وشمسها.


5 تواريخ

1948
الولادة في قرية جراجوس قرب مدينة الأقصر، جنوب مصر

1972
أول صعيدي يدخل الرهبنة اليسوعية

1984
رسم قسيساً في جراجوس

1998
أسس «جمعية النهضة»

2009
أصدر كتاب «لاهوت التحرير الفلسطيني، من وعد إبراهيم إلى وعد بلفور» (مصر المحروسة)