جاءتا من بيئة تكنّ العداء للفسلطينيين. ماريا وصديقتها ساندرا شابتان تجاوزتا «المحظور» حين قررتا اكتشاف عالم «الأعداء». توقعتا لقاء لحى طويلة، وأسلحة رشاشة في مخيم برج البراجنة، لكن الزيارة غيرت قناعتهما، لتؤكدا في النهاية أنهما ستعودان في زيارات لاحقة
أحمد محسن
عندما سُحقت أجساد الأطفال في غزة، بكَت ماريا في جل الديب. استجاب العالم لآلة القتل. صار الموت واقعاً، لا يحتمل الأمل في انتهائه. كافيةً كانت أم لم تكن، استمرت التظاهرات تمجّد الفاجعة، هنا في بيروت. رغم تدفق الموت وتحوله إلى حقيقة بشعة، لم توافق الفتاة المتعصبة لكنيستها على التسليم بتقارير الفيديو التي تبثها الفضائيات. لاحقتها الوجوه الصغيرة، المشبعة بالخوف والدم. كانت تتخيل عظام الفلسطينيين تُطحن بالأنقاض. لوّث الفوسفور الأبيض نهاراتها. لم تجد مفراً من خيال بشري صاف لا يرحم، في أن الصواريخ التي يُستحال صدها تمزق بشراً وتحولهم إلى ركام. ماريا أحست بخطأ يرتطم بعينيها. لم تفارق التلفاز. الآلة السيئة التي تنقل الموت بالألوان الحقيقية. الذاكرة هي التي تحول الصور إلى الأبيض والأسود. دموع كثيرة تحترق تحت عينيها القاسيتين. رفضت الاستسلام للموروثات الاجتماعية التي نمت عليها. نزعت صليباً مشطوباً من عنقها. وضعته في حقيبتها الجلدية السوداء. قررت التعرف عن قرب إلى الفلسطينيين. كان قراراً فظاً بالنسبة لها، وخطيراً بالنسبة إلى ساندرا التي رافقتها. انجذبت الفتاتان إلى لهفتيهما. نجحتا في ترويض العوائق بعد أسبوع واحد على المحرقة.
لم تجد ساندرا وروداً في المخيم ولا بحراً كالذي ترتاده في «المارينا»
كانتا، حتى اللحظات الأخيرة، التي سبقت وصولهما إلى المخيم، مؤمنتين بأنهما ستصادفان أشباحاً. ساندرا تحدثت عن الكلاشنيكوف مطولاً. عن أيد مشجوجة بالثأر، تؤمن بكره متجمد في العروق بين أجدادها واللاجئين. ماريا كانت أشد حذراً، إذ حافظت يداها على صلافة لافتة. ستقابل أناساً هناك، لا يمكنها أن تخاطبهم باللغة الفرنسية، التي تتغلغل في لسانها. نطقت بهذه اللغة، قبل أن تعرف العربية. أرهبتها صورة «أبو عمّار» على مدخل المخيم. تكرهه. تشتمه كلما تذكرته رغم رحيله. لكنها شقت درباً لقدميها داخل المجزرة. رأت في وجوه السكان على الأطراف حزناً يقتلع النزاعات القديمة. من حقهم أن يأكلونا، تقول ساندرا عن أهالي المخيم. تدفعها الغرف التي تراها إلى السؤال عن كيفية العيش، وعن كيفية المشي من دون الاصطدام برعشة الآخرين. لفتها بائع فول متجول، فاقتربت. آلمها أنه يبيع الذرة لأطفال لا يملكون غدهم. لا يملكون أرضهم. يضحكون لأنهم أطفال فقط. تتكئ عربة البائع على جدار ممتلئ بصور الشهداء. يكاد أن يصرخ الجدار، وهي تكره الجدران العازلة. مات أولئك الناس في المحرقة، هذا ما يخطر في بالها فوراً. ماريا تدنو من مسنة بحماسة ترتفع تدريجياً. عرفت عن نفسها كسائحة. هذا ليس مكاناً للسياحة. مازحتها الجدة. ارتفعت حماستها، فجلست. المكان ضيق. البيوت ضيقة. يضيق أمل المسنة بالعودة هو الآخر. أعادت في عرض بسيط، مشهداً لم يفارقها. المسنة التي تسبّ الجميع بعدما أغارت طائرة حربية على بيتها في مخيم جنين. يمكن أن تغير عليها الطائرات هنا، في مخيم برج البراجنة أيضاً. لا يعصى على الطائرات شيء. تطال أحشاء السماء والأرض. السماء بعيدةٌ في المخيم. أبعد مما هي عليه عادةً. ستمنع الأسلاك الشائكة العينين من ملامسة زرقتها الحادة. أسلاك تتشابك كما تتشابك جذور أهل البيوت الصغيرة في المحلة. منهم من عكا الساحلية مثلاً، ومنهم من ترشيحا في الوسط، أخبرت الجدة ماريا. يقطنون «الغيتو» ذاته. في الطريق إلى المخيّم، يمكن أن تقابل كل شيء. المزيد من الأطفال السُمر. يلهون على دراجات نارية، أو هوائية. لا فرق بين النار والهواء في المخيّم، كلاهما يلسع. شعرت ساندرا باللسعة هي الأخرى. لا ورود في المخيم، ولا صالات سينما. لا بحر كذلك الذي ترتاده في «المارينا». فقط بيوت متلاصقة، كما تتلاصق الثياب الصيفية بالجسد. تتفرس ماريا في قدمي رجل ينتعل حذاءً مهترئاً. يذكرها بصورة لوالدها حين كان مقاتلاً في «القوات اللبنانية». اعترفت مرة بأنه كان عسكرياً مزاجياً، وبأنه كان يجبرها على نزع حذائه الثقيل. كانت طفلة ترى في الفلسطينيين وحوشاً، يريدون اقتلاع الكنائس. اختلفت الصورة تماماً. لا يمكن هؤلاء الفقراء سوى الحنين إلى أرضهم.
لن يعودوا. ساندرا تعتقد أنهم يفهمون هذا الألم. يعتاشون معه في الباراكسات. الزينكو الذي كانت تسخر منه، يسرّب المطر مرضاً بطيئاً إلى يومياتهم. ليس سقفاً كافياً. يمكن المطر أن يخترق أجزاءه،إذاً، الصواريخ ليست بحاجة لأن تكون ذكية لتودي بملتحفيه. ماريا تتحسر على عدم إحضارها الكاميرا. خافت أن يسلخوا أظافرها. اكتشفت أن هؤلاء الناس ينتظرون أن يجدهم أحد. تهمس في أذن ساندرا: يمكن تصوير الوجع. يمكن ذلك. لطالما دارت بينهما نقاشات حول الصورة. تختلف الأمور في المخيم. الأرصفة تنطق. حتى الضوء إذا تسلل خافتاً، ينطق هو الآخر. لكن ماريا وساندرا لم تنطقا إلا ذهولاً. سنعود. قالتا بصدق، قبيل مغادرتهما، حين اشترت كل منهن كوفيةً، ورسومات لحنظلة. سنعود إلى المخيم، قالتا، لكن ليس كسائحتين. «زَيْكُن» قالت ماريا ضاحكة. الضحك يمسح بعض الألم. خرجتا أخيراً من الهاوية التي أوقعهما فيها جيل من الحروب الدامية. أدارتا ظهريهما بعيداً، وبدأ القمر يحبو باتجاه المخيم. لم يتغير شيء هناك، باستثناء اشتداد الحصار، منذ واحد وستين عاماً.


صبرا وشاتيلا أيضاً

لم تتغير صورة ياسر عرفات، في نظر مايا، بعد زيارتها إلى المخيم. تعاطفت مع الناس هناك فقط. أما الذي تغيّر عملياً، فهو صورة الرئيس الأسبق بشير الجميّل. تألمت مايا كثيراً، حين تذكرت أن بشير الجميّل، قال إنه سيحول مخيم صبرا وشاتيلا إلى حديقة حيوانات. ومثلما دفعتها صور الموت في غزة إلى زيارة المخيم، دفعتها أسرار حرب لبنان، للكاتب الفرنسي ألان مينارغ، إلى زيارة مخيمي صبرا وشاتيلا.