زينب صالحكانت تلك اللحظة مؤلمة، عندما رأيت صورته المعلقة على عمود الكهرباء وأنا عائدة ليلاً من عرس أحد أقاربي. في العرس شباب كثر في مثل عمره يحيون الليلة بالدبكة والرقص على ألحان أناشيد تتحدث عن النصر والوطن. لكنه كان غائباً، مع أنه يجيد الدبكة، لم يندهه أحد كما تنادى باقي الشباب.
في كل مرة أعود فيها من بيروت إلى القرية تكون صورته أول ما اراه. صارت جزءاً من الجغرافيا ومن الأرض، تماماً كالشجر والبيوت، وأصبحت ملمحاً روتينياً من ملامح الذاكرة البصرية لدرجة أنني اعتدت عليها ولم أعد أشعر بالمرارة عند رؤيتها في كل مرة.
ملمحً روتيني من ملامح الذاكرة البصرية
صورته ليست الوحيدة المعلقة، فصورة أستاذي، الذي كنت أحضر له هدية في كل عام بمناسبة عيد المعلم، وصرت أحضر له الورد إلى ضريحه منذ عام 2006، موجودة على العمود الآخر. بدروه، غاب عن العرس رغم أن العريس هو ابن عمه وأن عائلته كانت موجودة بأكملها.
الحرب انتهت وعدنا إلى بيوتنا وإلى روتين حياتنا، لكن بعض الشباب لم يعودوا إلى بيوتهم إلا... صوراً.
«ماذا لو لم تخترق تلك الرصاصة رقبته؟ ما كان سيحدث؟»، في الأغلب، لا شيء. لم يكن الآخرون ليعرفوا أنه شارك في الحرب. كان سيظل على سجيته، يسهر مع رفاقه ويملأ الدنيا صخباً وغناءً ومرحاً. كان على الأرجح أول المدافعين عن حب الحياة.
شيء غريب انتابني تلك الليلة، على عكس العادة. لم أعد لذكريات النعش الملفوف بالعلم والورد المغطى به، ولا إلى عبق غاب مع أيامه ولا إلى خيبة أحاديث لم تصل إلى مسامعه، ولا إلى ذرف الدموع. كل ما شغلني لحظتها كان هو. الإنسان الغائب، الذي تميّز حتى في غيابه إذ صار نجماً توزع صوره في أنحاء الجنوب كلها.
«هو» شاب كغيره، لكنه لم يغادر الجنوب في تموز ولا في آب ولا في أيام الهدنة ولا بعدها، كما فعل بعض أبناء جيله. نصحه الباقون بالانصراف لكنه أبى. نسي العالم كله والتزم بحب بندقيته، تعلق بجعبته أكثر من تعلق أمهات قانا بأبنائهن. لم نكن نعرف بوصلة المسير لكنه عرفها ولم يضيعها: «خلة وردة» أو «أبو طويل» أو «أبو لبن»، لا فرق. لم يكن حائراً ما دام العدو واحداً.
معادلات كثيرة خلصت إليها، أولاها أن الموت يظل موتاً، أكان شهادة أم بفعل حادث سير أم مرض. المهم بعده سيختفي من تحب. ثانياً، أن الحياة لا تتوقف عند رحيل أحد، فالمسرحية مستمرة. ستتوالى الأعراس والأفراح، وبين تزاحم الأرواح لن يتذكر أحد الشخص الغائب. ثالثاً، جميعنا نتساوى في المجيء، نخلق ونأتي من عالم مجهول عبر رحم أم كانت جسر العبور، لكننا لا نتساوى في المغيب. فجارنا مات في حادث سير ولم تعلق صوره إلا على جدران منزله، أما محمد، فقد ملأت صوره الأرجاء ليظل يسكننا.