strong>مصطفى بسيوني *نذر التغيير التي تجمعت في سماء مصر في عام 2005 سرعان ما تبخرت بالتدريج في الأعوام التالية، لتضع سؤال التغيير نفسه محل تساؤل. لقد كان عام 2005 الأكثر سخونة في عهد حسني مبارك، حيث طال التحدي، لأول مرة، حكمه نفسه. وهو العام الذي شهد تعديل مواد بالدستور تمهيداً بنظر المعارضة لتوريث الحكم، وهي تحدت تلك التعديلات بتظاهرات ضد التمديد والتوريث، لم تشهدها مصر من قبل. ولم يتمكن النظام ساعتها من تمرير التعديلات بهدوء، واضطر لارتكاب فضائح وانتهاكات، ووقعت وقتها حوادث الاعتداء الجنسي على المتظاهرات في شهر أيار / مايو. ولأول مرة ظهر منافس في الانتخابات الرئاسية، إذ خاضها أيمن نور مؤسس حزب الغد الليبرالي. ورغم أنه لم يحصل سوى على نصف مليون صوت، إلا أنها اعتبرت أصواتاً حقيقية، وأن أضعافها حجبها التزوير.
بعد انتخابات الرئاسة، واجه النظام ثورة القضاة المطالبين باستقلال القضاء، الذين فجر غضبهم الانتهاكات التي شهدتها انتخابات من المفترض أنهم يشرفون عليها، وخاصة بعد النشر العلني لشهادات قضاة عن التزوير في الانتخابات. والانتخابات البرلمانية التالية، عام 2006، شهدت حصول جماعة الإخوان المسلمين، التي يعتبرها النظام أكبر خصومة، على 88 مقعداً رغم الإجراءات الصارمة التي طالتهم، وكانت أسخن انتخابات تشريعية تشهدها مصر من عقود. كل ذلك كان يجري في ظل تعرض النظام لضغوط أميركية ودولية لم يتعرض بها من قبل.

من الصعب اليوم توقع أن يكون للحركة العمالية دور حقيقي في عملية انتقال السلطة
ما حدث في مصر خلال معركة التمديد لحكم مبارك كان يوحي بأن التوريث سيكون مستحيلاً، ما دام التمديد، وهو الأسهل لاعتبارات كثيرة، يواجه كل هذه الصعوبة. ولكن، من ينظر للمشهد المصري اليوم، يعرف أن مياه النيل قد تغيرت مرات عدة في تلك الفترة القصيرة.
لقد عمد النظام المصري في الفترة السابقة إلى تصفية بؤر المقاومة لنظام حكمه، بؤرة تلو الأخرى، مستخدماً سيف المعز وذهبه. أيمن نور المنافس في انتخابات الرئاسة أودع السجن عقب الانتخابات التي أحرز فيها المركز الثاني، وحرم بالتالي من ممارسة حق الترشح في الانتخابات المقبلة. وتدخل النظام لإحداث انشقاق داخل حزبه، ووصل الأمر لحدّ حرق مقر الحزب تحت رعاية الأمن. نقابة الصحافيين التي كانت أهم منابر المقاومة، وملاذ المتظاهرين من أجل الحرية، تحولت في الانتخابات الأخيرة في 2007، إلى أحد معاقل النظام بتقديم أحد مؤيديه لمنصب النقيب مدعوماً بزيادة 200 جنيه بدل التكنولوجيا الذي يتقاضاه الصحافيون شهرياً، من مجلس نقابة تقلصت فيه المعارضة.
نادي القضاة الذي اعتبره الكثيرون مفجر الثورة في عامي 2005 و2006، والذي تحدى قادة معركة الاستقلال فيه النظام تحدياً غير مسبوق، لم يكن مصيره مختلفاً. ففي انتخابات نادي القضاة في شباط / فبراير 2009، أطاح التيار الموالي للحكومة، والمدعوم من وزارة العدل، تيار الاستقلال وحصل على 11 مقعداً في مجلس نادي القضاة من أصل 15. وتمثل الدعم بمشاريع إسكان ميسر وعلاج للقضاة وأسرهم، مع بعض التيسيرات الخدماتية. وحدث الشيء نفسه مع نقابة المحامين التي جرت انتخاباتها الشهر الماضي، وكانت معقلاً للمعارضة. وجاء عبر الوعود الانتخابية أيضاً نقيب موال للحكومة وكذلك أغلبية المجلس، والأهم من ذلك هو أن تشكيل مجلس النقابة تم تحت إشراف أمين التنظيم في الحزب الوطني الحاكم، وأحد مهندسي عملية التوريث، أحمد عز.
حركة «كفاية» التي انعقدت عليها الآمال في عام 2005 وتفرعت منها العديد من الحركات المنادية بالتغيير مثل «شباب من أجل التغيير» و«صحافيون من أجل التغيير» و«أدباء وفنانين من أجل التغيير»... أخذت في التآكل والتراجع ووصلت لحد التحلل. جماعة الإخوان المسلمين تتلقى كل يوم ضربات أمنية وصلت إلى مرحلة غير مسبوقة، ولا يخطئ أي مراقب في أن الضربات المتلاحقة التي تتلقاها الجماعة تستهدف قدراتها التمويلية والتنظيمية بالذات، في إطار استعداد النظام للانتخابات البرلمانية المقررة في العام المقبل، فيما يتوقع البعض أن يصدر قرار بحل البرلمان الحالي والدعوة لانتخابات مبكرة، لا يحصل فيها الإخوان على الكتلة نفسها، وتستبدل بهم المعارضة الحزبية الرسمية التي لا ينزعج النظام من وجودها.
نجاح النظام في تصفية بؤر المقاومة للتوريث تمّ على هذا النحو، أي عبر منح بعض المزايا والمكاسب المحدودة جداً لبعض الفئات، التي لم تكن سوى حقوق تطالب بها هذه الفئات أصلاً، وممارسة الضغط الأمني والملاحقة. وهو أمر يبعث بالضرورة على التساؤل عن مدى عمق تلك المقاومة وحجمها الحقيقي في المجتمع. وبداية، لا يمكن تجاهل البطولة والإخلاص اللذين تميزت بهما حركات التغيير ومقاومة التوريث بكل تنويعاتها، منذ تعرض عبد الحليم قنديل، الصحافي الشهير الذي أطلق أول حملة علنية لرفض التوريث، للخطف والاعتداء على أيدي النظام، وحتى الحملات الأمنية على الإخوان المسلمين، مروراً بكل ما واجهته الحركة من قمع. ولكن الملاحظ أن تلك البطولة والتضحية اللتين تميزت بهما الحركة لم تكفيا أبداً لحشد قطاعات من المجتمع المصري خلفهما بفعالية، ولا نتكلم هنا عن التأييد السلبي الذي قد تجده في المجتمع. فالحركة ظلت محصورة وسط تجمعات النشطين التي كانت تتسع وتضيق حسب الظرف، ولكن لا تتغير طبيعتها. وللأسف، لم تنجح دعوات الحركة للعصيان المدني والإضراب العام في خلق جسور حقيقية مع قطاعات من الجماهير. ورغم الصعود الكبير الذي شهدته الحركة العمالية في مصر منذ 2006، ونجاحها في فرض نفسها معطىً أساسياً على الوضع المصري، إلا أنه من الصعب الآن توقع أن يكون للحركة العمالية التي ما زالت في مراحل مطلبية، وفي بداية تأسيس كيانات تنظيمية أولية، دور حقيقي في عملية انتقال السلطة. وبينما تتآكل بؤر مقاومة التوريث على هذا النحو، توضع اللمسات النهائية لمشروع التوريث حتى يبدو أن لا شيء ينقص سوى الإجراءات. فعلى الصعيد العملي، يمارس جمال مبارك صلاحيات تتجاوز كثيراً كونه أمين لجنة السياسات في الحزب الحاكم، دون منصب تنفيذي، وينسحب ذلك على نشاطه في الداخل والخارج.
من ناحية أخرى، شهدت الفترة الماضية مدّ الجسور مع الإدارة الأميركية الجديدة التي رأى النظام أنها أكثر مرونة في التعامل مع ملف الاستبداد، وكان خطاب أوباما من القاهرة للعالم الإسلامي ما يشبه الضوء الأخضر للنظام. وحتى على المستوى الإجرائي، تولّى المستشار فاروق سلطان رئاسة المحكمة الدستورية العليا، وهو ما يجعله رئيس لجنة الإشراف على الانتخابات الرئاسية. والرجل يتمتع بتاريخ في المحاكم العسكرية، وفرض الحراسات على النقابات المهنية، ولا يتوقع منه إثارة أزمات في انتخابات رئاسة الجمهورية. التشاؤم والتفاؤل لا يساعدان على فهم وضع سياسي، وخاصة بتعقيد الوضع المصري، ولكن المعطيات المباشرة لا توحي بتوافر مقاومة ذات شأن لعملية انتقال السلطة، وأن الترتيبات شبه نهائية ما لم يجدّ جديد. والواقع أن وضعاً موائماً للتوريث لهذه الدرجة يحفز في حد ذاته على إتمام المشروع قبل حدوث مفاجآت من أي نوع.
لا يعني ذلك بالطبع أن التوريث يمكن أن يمر دون مقاومة، مهما كان حجمها وتأثيرها. ومهما كانت النتيجة، فإن حقيقة واحدة يتوجب فهمها، وهي أن مصر التي حكمها مبارك منذ 1981 لم تعد هي نفسها. فعلى الرغم من كل ما يعتري حركات التغيير مما ذكرناه، فقد أصبح تحدي الحكم أمراً وارداً في مصر. وعلى الرغم من أن صعود الحركة العمالية في مصر ما زال في مراحله الأولى، إلا أنه أصبح معطىً قابلاً للتطور في الفترات المقبلة. لقد رتب النظام كل شيء كما يبدو، ولكن ما واجهه مبارك في المرحلة الأخيرة من حكمه يؤكد أن تركته ليست جائزة.
* صحافي مصري