علاء اللامي *شهدت احتفالات هذا العام بالذكرى الحادية والخمسين لثورة 14 تموز في العراق أحداثاً عديدة مفعمة بالدلالات، لعلّ من أبرزها اعتبار المناسبة عطلة رسمية، والمشاركة الجدية في الاحتفالات من قبل يساريين عراقيين ممثلين في حزبين شيوعيين، الأول «الحزب الشيوعي العراقي/ اللجنة المركزية»، وهو الأكبر، ومشارك في العملية السياسية الاحتلالية القائمة على قواعد المحاصصة الطائفية، والآخر «الحزب الشيوعي العمالي العراقي» وينشط سلمياً
خارجها.
كذلك شهدت مطالبة رسمية من قبل مسؤولين سياسيين من التركمان العراقيين بالاعتذار الرسمي من قبل الشيوعيين العراقيين والزعامات الكردية عن المجزرة الدامية التي شهدتها مدينة كركوك في الذكرى الأولى للثورة، وأسفرت حسب أوثق الإحصائيات عن مقتل 31 شخصاً من التركمان وإصابة 130 آخرين بجراح، ونهب حوالى 70 محلاً تجارياً يملكها التركمان. وكانت المذكرة، التي رفعها حقوقيان تركمانيان إلى الزعيم قاسم وقتذاك، قد احتوت على قائمة بأسماء الضحايا ضمت 25 اسماً
فقط.
لقد ظلت هذه المأساة المروّعة تؤرق الذاكرة الجماعية للعراقيين طوال عقود، وبات من الضروري اليوم أن يصغي المعنيون بها إلى نداء الحق والإنسانية، بغية إغلاق هذا الملف بما يليق به من اهتمام وتوقير، فيعاد الاعتبار إلى الضحايا الأبرياء، ويعتذر أولئك الذين يتحملون مسؤولية مباشرة أو حتى غير مباشرة عنها لذويهم، ويطرح إمكان التعويض الحكومي للمتضررين كمطلب غير قابل للتأجيل.

بصفتي عضواً في الحزب الشيوعي العراقي فأنا أعتذر لضحايا مجازر سنة 1959 في كركوك
إنّ ما يجعل الاعتذار مسوَّغاً وممكناً، هو أن الحقائق والوقائع الخاصة بهذا الحدث باتت منشورة ومحققة على نطاق واسع ومنذ زمن طويل. فقد فتح الباحث المرموق حنا بطاطو في الكتاب الثالث من ثلاثيّته «العراق: الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار» هذا الملف وأعلن دقائقه وتفاصيله الموثقة ومنها:
ـــــ مسؤولية عناصر شيوعية وفي المقاومة الشعبية واتحاد الشباب الديموقراطي تنتمي قومياً إلى الأقلية الكردية في مدينة كركوك، عن هذه الارتكابات بحق التركمان.
ـــــ السكان من الأقلية التركمانية كانوا عزلاً من السلاح، فيما كان الأكراد مسلحين جيداً ومدعومين من قبل قطعات عسكرية حكومية مسلحة وخصوصاً «الشرطة العسكرية التابعة للفرقة الثانية».
ـــــ الموقف الحازم والشجاع لرئيس الوزراء وقائد ثورة تموز عبد الكريم قاسم من تلك المجازر، حيث وصفها في خطاب له بأنها «أعمال فوضوية نابعة من الضغائن والحقد والتعصب الأعمى».
وقد أصيب قاسم بصدمة حين شاهد صور الفظاعات التي ارتكبت فقال، كما يوثق بطاطو إن «هولاكو لم يرتكب مثل هذه الأفعال الوحشية ولا الصهاينة فعلوا»، ووصف مرتكبيها بأنهم «أوغاد وبلا شرف ولا ضمير وأحطّ من الفاشيين»، وكان محقاً في كل ما قال. فقد استُعملت خلال المذبحة، مدافع الهاون في قصف دور السينما والمساكن والمحال العائدة للتركمان العراقيين بقصد القتل، وأعدم أشخاص أمام منازلهم وسُحلت جثثهم وعلقت على أعمدة الكهرباء لعدة أيام.
ـــــ تأكد أيضاً أن تلك الأحداث لم تكن مؤامرة مخططاً لها من قبل جهات وصفها التركمان بأنها معادية لهم في الوسط الكردي والشيوعي، كما لم تكن كما وصفها الشيوعيون وحلفاؤهم، بأنها مدبرة من قبل عملاء الإمبريالية وحلف «السنتو»، بل هي نتاج مشاعر التنافس والصراع بين القوميتين التركمانية والكردية في إحدى انفلاتاته البشعة، وقد اتخذت تلك الانفلاتة شكلاً سياسياً وحزبياً، ومضموناً غرائزياً شوفينياً. وقد نجد صدى لهذا المعنى في اتهامات تركمانية للأكراد بأنهم يريدون «القضاء على العنصر التركماني في العراق لأنه يشكل عقبة في وجه طموحاتهم الانفصالية» (مذكرة تركمانية رفعت إلى قاسم). فلم يتصرف الأكراد كشيوعيين وديموقراطيين ضد قوميين يمينيين من التركمان، وإنما كأكراد متعصبين، ولم يتم استهداف التركمان لأنهم مؤيدون لليمين القومي الرجعي المعادي لليسار والثورة الجمهورية، بل كسكان تركمان يهددون النفوذ الكردي المتزايد. ومما يؤكد هذا المغزى هو أن جهات عدة، ومن بينها دبلوماسيون أجانب كما يوثق بطاطو، «كانت تشك في أن العنف ـــــ يومذاك ـــــ كان مدبراً، ويميلون إلى الرأي القائل بأنه اندلع نتيجة لإصرار الأكراد الشيوعيين والديموقراطيين على أن تكون هناك مسيرة واحدة لكل المدينة في ذكرى 14 تموز، وعلى أن يقودوها بأنفسهم، والإصرار المماثل للتركمان على تنظيم طابور مستقل خاص بهم في
المسيرة.
ـــــ الشلل والارتباك الذي هيمن على تصريحات وتصرفات قيادة الحزب الشيوعي والذي يتجلى في الآتي: الانتقال من إدانة الأفعال التي ارتكبت بقوة عبر القول «نحن ندين كلياً أي انتهاك يرتكب ضد الأبرياء أو حتى إيذاء أو تعذيب الخونة»، إلى التردد في اتخاذ قرارات قوية بحق المشاركين المعروفين في الأحداث، وإلى تبني واعتماد تقرير سري متناقض حول الأحداث. فمع أن نقداً شديداً قيل في داخل قيادة الحزب ـــــ كما يروي القيادي عزيز الشيخ ـــــ بلغ درجة مطالبة الشهيد سلام عادل الأمين العام للحزب بالاستقالة، إلا أن قراراً ذا مغزى لم يتخذ.
ـــــ أعتقد أن الخطأ الأكبر الذي ارتكبته قيادة الحزب «اللجنة المركزية» آنذاك، والذي تم السكوت عنه حتى الآن، هو اعتمادها للتقرير السري الذي قدمه الأمين العام للحزب الشهيد سلام عادل ذاته، وكتبه أو أعدّه الآمر الجديد للفرقة الثانية والعضو في الحزب الشيوعي، والذي أعلن فيه أن «الجيش قد وضع قيد التنفيذ خطة كركوك الأمنية»، لكنه جوبه بالمقاومة فاستخدم مدافع الهاون وقتل عدداً من الناس. وأكد أيضاً أن قادة «التنظيمات الشعبية» وضعوا أنفسهم تحت تصرفه لإعادة الهدوء إلى المدينة. وهو تقرير متناقض ويحتوي على الكثير من الأخطاء والتلفيقات...
من الضروري والأفيد للشعب العراقي جعل هذا الملف من اختصاص المؤرخين والباحثين بعد الانتهاء من مترتباته الإنسانية العملية، وخصوصاً تقديم الاعتذار للضحايا التركمان من قبل الشيوعيين والقيادات الكردية، والتعويض عليهم وعلى ذويهم تعويضاً مجزياً. فليس هناك تصرف أكثر إخلاصاً وتحضّراً من الاعتذار لأناس أبرياء غابوا عن عالمنا، فالأقوياء داخلياً يعتذرون عن أخطائهم. وإذا أُريد للاعتذار أن يكون مقبولاً وإنسانياً، فينبغي أن يكون واضحاً صريحاً، لا قيد فيه ولا شروط. كما ينبغي أن يكون شاملاً، يعبر عن إرادة جميع الشيوعيين السابقين والحاليين العراقيين، أفراداً وأحزاباً وشخصيات.
وبما أنني شخصياً، كنت ذات يوم عضواً في الحزب الشيوعي العراقي، ولم أستقل أو أفصل منه حتى اليوم، رغم انقطاع علاقتي التنظيمية به منذ ثلاثين عاماً، فأنا أعلن بهذه المناسبة الحزينة اعتذاري وأسفي لضحايا مجازر سنة 1959 في مدينة كركوك من أبناء شعبي العراقي من التركمان ولذويهم، وأدين مرتكبي تلك المجازر أشدّ الإدانة، وأدعو الدولة العراقية بعد تحرير العراق من الاحتلال إلى التعويض عليهم وعلى
ذويهم.
* كاتب عراقي