سنة بعد سنة تُبرز حفريات المتحف البريطاني تاريخ مدينة صيدا الذي كان مجهولاً. فهذه المدينة مأهولة بلا انقطاع منذ أكثر من 5000 سنة، واليوم بدأت حياة الأقدمين وشعائرهم الدينية والمدفنية تبرز
جوان فرشخ بجالي
للسنة الـ11 على التوالي، تتابع حفريات المتحف البريطاني في صيدا الكشف عن تاريخ المدينة في الفترة الممتدة من الألف الثالث قبل الميلاد وحتى الحقبة الرومانية. فهذه التنقيبات تُبرز سنة بعد سنة الآثار الدفينة في العقار الممتد في منطقة مدرسة الفرير في صيدا (ملاصق لمتحف الصابون الذي تمتلكه مؤسسة عودة). كمّ الاكتشافات في هذا الموسم هائل بعد توسيع رقعة الموقع الأثري والتعمّق في المباني التي كان قد عثر عليها في السنين الماضية.
موقع صيدا هذا مأهول منذ الألف الثالث، وقد عمل علماء الآثار على تحديد الأبنية والعادات التي تعود إلى كل فترة، حيث اكتملت صورة تطور الحياة على هذه الرقعة من أرض صيدا. إذ اكتشفت البعثة الأثرية خلال السنين الماضية مبنى ضخماً يعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد. وهذا المبنى مؤلف من عدة غرف عثرت البعثة في البعض منها على مخازن للحبوب، لكن اكتشاف هذا الموسم كان الغرفة التاسعة التي تحوي أسماكاً. وتقول مديرة البعثة الأثرية الدكتورة كلود ضومط سرحال إن «الغرفة تضمّ تنّوراً ضخماً يزيد قطره على متر، وقد عثرنا بالقرب منه على عظام أسماك، أربع منها قُطعت رؤوسها. وبالقرب من التنّور اكتشفنا أيضاً أربعة سهام تشبه إلى حد كبير تلك التي تستعمل اليوم في الصيد البحري. وكان بالقرب منها كذلك تسعة أحجار من الصوان ناعمة الأطراف، كما لو أن استعمالها كان لبرش الأسماك». وتطرح تلك الاكتشافات الأسئلة عن جهة استخدام تلك الغرفة من هذا المبنى الضخم، فهل كان السكان يجفّفون الأسماك لتخزينها أو للاتجار بها؟ فبحسب الدكتورة سرحال تلك النظرية مطروحة، لكن الدراسات التفصيلية التي ستبدأ على العظام وباقي المكتشفات ستؤكدها أو تنفيها.
أما عن الحياة في هذا الموقع في الألف الثاني قبل الميلاد، فهو تحول إلى مدفن واسع. فالفريق قد كشف خلال عمليات التنقيب على ما يزيد على 108 مقابر محفورة في الرمل، بعضها كان لمحاربين، وأخرى لأطفال. لكن هذا الموسم اكتُشف قبر شابة دُفنت بقربها امرأة في مُقتبَل العمر. وتقول سرحال إن الأدوات المدفنية التي عُثر عليها في قبر الشابة فريدة من نوعها. فكان هناك علبة مصنوعة من عظام قرون الغزلان، محفور عليها أشكال دائرية، وتحوي في داخلها ثلاث منحوتات صغيرة على شكل خنافس كان المصريون الأقدمون يعدّونها بمثابة آلهة ومصدر خير. ووضع داخل العلبة أيضاً ختم أسطواني عليه نحوتات. وزُينت يد تلك الشابة بخاتم من الذهب أضيفت في وسطه قطعة حديدية صغيرة، ما يبرز أهمية تلك المادة التي كانت لا تزال نادرة في الألف الثاني. ولا تتوقف القطع المدفنية عند هذا الحد، فقرب الهيكل العظمي وُضعت مجسَّمات مصغّرة لجرار مصرية الشكل. كل تلك التقديمات المدفنية لتلك الشابة، مع الأسف، لم تكشف الحفرية «هويتها»، لكن الدراسة التفصيلية للقطع المدفنية التي عُثر عليها ستسمح للفريق بتقديم نظريات وأفكار عنها.
ولا تتوقف الاكتشافات التي تعود إلى الألف الثاني عند هذا الحد، بل تطال أيضاً الجانب الديني لحياة أبناء المدينة، فتشرح الدكتورة سرحال أن «الفريق اكتشف مبخرة استعملت بكثرة، وقد وضع بجانبها تمثال من الطين يمثل آلهة كنعانية وجرة وُضعت في داخلها 9 عظام لكواحل حيوانات، قُدمت بالتأكيد على ذبائح، لأن المحافظة على عظام الكاحل كانت تقليداً في حينها، للبرهان على التقديمات».
دراسة هذه المكتشفات بدأت تُبرز أشكال الشعائر الدينية وأساليبها التي كانت متبعة في هذا الموقع قبل أربعة آلاف سنة. وتشير سرحال إلى أن الشعائر كانت «تبدأ على القبور، ومن ثم يذهب السكان إلى داخل مبنى كبير كان يشغل الموقع ويجتمعون هناك ليتشاركوا الطعام الذي كان يتألف من العدس والفاصوليا البيضاء والحمص، بالإضافة إلى اللحم. ويمكننا أن نؤكد أن هذا التقليد بدأ كاحتفالات دينية خاصة بالأموات وشعائر الدفن، لكنه تحوّل لاحقاً ليصبح احتفالاً تقليدياً بحتاً».
حفريات صيدا ستصبح في المستقبل القريب مرجعاً لكل الدراسات عن الحضارة الكنعانية. فمع هذه الاكتشافات، وفي الدراسات الواسعة التي ينشرها الفريق العلمي العامل في الموقع، بدأت تتضح صورة تقاليد سكان هذه المدينة وحياتهم. طقوسهم، شعائرهم، عادات الدفن وطرق التجارة بدأت تبرز بوضوح. ولأن هذه الحفريات أعطت مدينة صيدا بعداً تاريخياً وأثرياً كانت تفتقر إليه، فقد قرر إنشاء متحف على الموقع تعرض فيه القطع المكتشفة. وتمويل المتحف كان قد قدمه صندوق النقد الكويتي، والحجر الأساس قد وضع على الموقع، وسيبدأ الآن العمل على تفاصيله. عمل هذا الفريق أغنى المدينة على الصعيد العلمي، إذ أبرز تاريخها الذي كان مجهولاً، وعلى الصعيد الاقتصادي والإنمائي أوجد لها متحفاً أثرياً سيُعلي من شأنها على صعيد البلد والمنطقة.