محمد بنعزيز *«إن حكومة بلادي ستعمل مع حكومتكم ومع أطراف أخرى في المنطقة من أجل التوصل إلى حل يستجيب لحاجات السكان في ما يخص الحكم الشفاف والثقة في دولة الحق والقانون وإدارة عادلة ومنصفة». هذا هو الوعد الجميل الذي قدمه باراك أوباما للملك محمد السادس في رسالة في مطلع تموز / يوليو 2009. وهذا وعد إذا نُفّذ، فعلى الجرح أن يشفى، وجرح المغرب هو قضية الصحراء، التي كانت مستعمرة إسبانية منذ 1884 واسترجعها المغرب في 1975 عبر المسيرة الخضراء، بينما كان فرانكو يحتضر في مدريد. لكن تلك الفرحة لم تكتمل، إذ بدأت جبهة البوليساريو، انطلاقاً من التراب الجزائري، حرب عصابات للسيطرة على الإقليم المتنازع عليه، وقد كانت الحرب مصدر إنهاك لاقتصاد البلاد وسبب حداد لآلاف الأسر المغربية. واحتلت الصحراء حيزاً كبيراً في المشهد السياسي المغربي خلال الثلاثين سنة الأخيرة. فقد مثلت سقفاً للإجماع الوطني وعنواناً رئيسياً للسياسة الخارجية. وقد كان الدعم الأميركي للمغرب مهماً لكسب المعركة على الأرض، ولتجميد الوضع السياسي للصحراء.

تظن واشنطن أنها إذا «أصلحت» العراق شرقاً والمغرب غرباً، فسيصلح ما بينهما
تحسن الوضع منذ 1998، إذ لم تعد الولايات المتحدة تعتبر المغرب العربي منطقة نفوذ أوروبي، وجاءت مبادرة «إيزنستات» لتأكيد هذا التوجه. ثم زادت أهمية المغرب الاستراتيجية منذ انضمامه للحرب على الإرهاب، وأميركا تعتبره حليفاً استراتيجياً، وهي تنوي أن تبني فيه قاعدة «الأفريكوم» لمواجهة تنظيم «القاعدة» في منطقة الساحل والصحراء. بالإضافة إلى كل هذا، تعتبر أميركا المغرب نموذجاً للتسامح والانفتاح ومختبراً لدمقرطة العالم العربي. وتقوية لهذا النموذج، قدم صندوق «تحدي الألفية» الأميركي مساعدة للمغرب بأكثر من 750 مليون دولار لتمويل الإصلاحات. كما أن وكالة المساعدات الأميركية أنفقت ملياري دولار في المغرب خلال خمسين سنة. وتظن أميركا أنها إذا «أصلحت» العراق شرقاً والمغرب غرباً، فسيصلح ما بينهما!
وفي هذا السياق، يأتي وعد الرئيس الأميركي الجديد للملك بالعمل معاً من أجل التوصل إلى حل. وهذا وعد تبعه جدل، لأن الرسالة نفسها الموجهة للملك تقرر أنه «يتعين على البلدان العربية أن تعتمد على التزام مبادرة السلام العربية، للقيام بخطوات إزاء إسرائيل تصب في اتجاه وضع حد لعزلتها في المنطقة». وبعد التعميم، انتقل أوباما إلى التخصيص قائلاً: «آمل أن يكون المغرب، كما كان في السابق، رائداً في النهوض بالمصالحة بين إسرائيل والعالم العربي». جريدة «التجديد» المقربة من حزب العدالة والتنمية الإسلامي، نشرت هذا الخبر على صفحتها الأولى. وفي صفحتها الأخيرة، اعتبرت أن الربط بين المصالحة والحل في الصحراء مقايضة، بل ابتزاز. وقد كتب مصطفى الخلفي، رئيس التحرير مقالاً بعنوان «الصحراء والتطبيع والابتزاز الأميركي المستمر»، قال فيه إن الوعد الأميركي «يعيد فتح سجل طويل لهذا الابتزاز الأميركي، الرسمي منه أو غير الرسمي، الذي انطلق مع بداية النزاع واتخاذه أبعاداً عسكرية حادة في نهاية السبعينيات، عندما عمل ستيفن سولارز أحد كبار زعماء اللوبي المؤيد لإسرائيل على الحيلولة دون تمكين المغرب من صفقات سلاح أميركية توفر له القدرة على إحداث التوازن مع السلاح السوفياتي الموجود عند البوليساريو... وجد المغرب نفسه مضطراً للانخراط في تيسير عملية التفاوض بين إسرائيل ومصر، التي أتاحت في ما بعد أن تفك عقدة السلاح الأميركية».
الأمر واضح إذاً، الصحراء جرح لا قضية فوقه. لقد قايض الملك الراحل الحسن الثاني وساطته بين أنور السادات ومناحيم بيغن بالدعم الأميركي للمغرب في حرب الصحراء، واستقبل الملك شمعون بيريز في المغرب سراً، وما أن أقلت الطائرة حتى سربت إسرائيل الخبر في 1986... وحالياً يحاول المغرب استرضاء اللوبي اليهودي في أميركا، والكثير من اليهود يعودون لإنعاش السياحة في مدينة الصويرة التي عاش فيها الآلاف من أجدادهم... ولهذا نتائج مثمرة بالنسبة للمغرب الذي يعتبر قضية الصحراء قضية حياة أو موت. وتعبيراً عن تلك النتائج، صرح المبعوث الأممي للصحراء «بيتر فان والسوم» أن استقلال الصحراء ليس خياراً واقعياً، وفوراً دعمه المندوب الأميركي في الأمم المتحدة حينها، زلماي خليل زادة. لكن فكرة المبعوث الأممي لم تعجب البوليساريو. وهكذا عاد الملف إلى المربع الأول. ثم جاء المبعوث الجديد للصحراء كريستوفر روس...
غير أنّ رسالة أوباما لم تصادف التشكيك فقط. بالعكس، اعتبرتها الدوائر الرسمية وجل الأحزاب فتحاً، وتقديراً للمغرب، لقد قال أوباما في القاهرة: «أعلم كذلك أن الإسلام كان دائماً جزءاً لا يتجزأ من قصة أميركا، حيث كان المغرب هو الدولة الأولى التي اعترفت ببلدي». هذه معلومة لا يعلمها حتى تلاميذ المدارس المغربية، وهي مصدر فخر. وقد وضع المرحبون رسالة أوباما للملك في سياق خطابه في القاهرة حين أعلن «لقد أتيت إلى القاهرة للبحث عن بداية جديدة بين الولايات المتحدة والمسلمين حول العالم استناداً إلى المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل». وحيث إنه من مصلحة المغرب إنهاء النزاع في الصحراء بإقرار الحكم الذاتي الموسع، فلا داعي للتشكيك في نوايا أوباما، الذي تُستقبل تصريحاته بالترحيب والتصفيق في انتظار النتائج على الأرض.
وقد تعزّز موقف المتفائلين بمقال نشره سفير أميركي سابق بالمغرب في جريدة إنكليزية ولخصته جريدة «المساء» المغربية، منذ أسابيع قليلة، طالب السفير، الإدارة الأميركية، بعدم نسيان ملف الصحراء، ولامَها على التركيز على النفط وإيران والسلام في الشرق الأوسط. وهذا طلب يصب برداً وسلاماً على المرحبين برسالة أوباما، وهم ينطلقون من أن الصحراء هي القضية الأولى للمغاربة، ومن حق المغرب تحقيق الوحدة الترابية باستخدام الرياح التي تهب من واشنطن. خيارات المغرب قليلة، والبوليساريو تهدد بحمل السلاح من جديد لأن الهدنة طالت...
يقول البعض إن الشعارات القومية والإسلامية «على الرأس والعين»، ولكن التعاون مع أميركا، بما يحفظ الأمن والاستقرار مهم أيضاً. وعندما يشتد النقاش مع أصحاب هذا الطرح يردون أن حسني مبارك يعد خطة سلام لوضعها على طاولة أوباما، مبارك يحاور الصحافة الإسرائيلية ويستقبل بيريز، ويتساءل بدهشة: لماذا سيرغب الفلسطينيون في العودة؟ ثم لماذا يمتنع المغرب عن السير في هذا الاتجاه؟ كيف يحق لحسني مبارك ما لا يحق لغيره؟ إذا كانت أم الدنيا خرجت من الصراع وأصبحت وسيطاً، فكيف بالمغرب الذي يمثل يهوده أصل عُشر سكان إسرائيل؟ وتضيف بعض فصائل الحركة الأمازيغية أن المغرب ليس عربياً أصلاً، والقضية الفلسطينية معركة مستعارة ولا تعنينا. والكثير من نشطاء الحركة الأمازيغية يقرّرون أنّ المغرب أهم من العروبة والإسلام، وقد ملوا من أخبار دفع مسلسل السلام وجره وإحيائه وردمه. وقد سخرت صحف عدة من نقابة الكونفدرالية الديموقراطية للشغل، عندما رفعت شعار «القدس تنادينا، فقليلاً من الغضب يا أمة العرب» في عيد العمال 2009. هذان هما الموقفان من رسالة أوباما، وهما على حق معاً، لأن كل فريق قرأ الفقرة التي تناسبه. الذين ينطلقون من مصلحة محلية مغربية استشرفوا في الرسالة فرصة، والذين يفكرون قومياً أو في إطار الأممية الإسلامية توجّسوا من تغلغل صهيوني يقضم العالم العربي من أطرافه.
كيف سيشتغل الفريقان؟ إذا حملنا اللاحق على السابق كما قال ابن خلدون، واعتبرنا معه أن المستقبل يشْبه الماضي شبه الماء بالماء، فالخطاب العلني سيتضامن مع الشعب الفلسطيني الشقيق وسيندد بالتطبيع والصهيونية، بينما الممارسة تتعاون مع الأطراف في المنطقة «للتوصل إلى حل» للوجع المغربي!
* صحافي مغربي