ميرا صيداوييجلس أبو صالح مرتشفاً قهوته في الفجر الباكر على إيقاع أغنية لأم كلثوم «أنا وانت ظلمنا الحب». الجو في الخارج بدا بارداً على غير عادة ونسيم المخيم صار يخترق الأبنية بهدوء متسللاً إلى وجوه المصلين وتفاصيل أبو صالح الصغيرة والدقيقة.
الحارة تستعيد حركتها ببطء. «وكأنّ الناس لا رغبة لهم بالاستيقاظ، هم عالقون في نومهم ولا يعنيهم صوت أم كلثوم الذي يخترق جدارتهم ويثور على الإسمنت والأبنية المتلاصقة واللون الأسود العالق في المكان»، قال أبو صالح لنفسه.
بعدها، أطفأ الرجل سيجارته متأملاً الصمت المطبق على المكان. ردد جمل الأغنية بهدوء وعاد ليحمل نفسه إلى حيث الصور في رأسه. صورة المرأة التي أحبّ...
ابتسم قائلاً لنفسه: «سأكتبها على الأوراق. سأكتب كلّ ذاكرتي هنا». حمل دفتره البني وقرر الكتابة. شردت أنامله عن الدفتر وصعدت إلى ذقنه. لاحظ نمو الشعر بطريقة كثيفة في وجهه. عرف عندها أنّه نسي ملامحه، فهو منذ زمن لم يتأمل صورته في المرآة. بدا وجهه غريباً عنه. ابتسم، لتعود أنامله إلى الأبيض في الدفتر. مررها لتقتحم بياض الورق وتغطيه بسوادها وخشونتها. أحس بالتشققات الصغيرة في يده فتذكر أنّها لطالما آلمته.
عادت الصور لتجتاح رأسه فقرر الكتابة. دخلت أنامله في حالة من الثبات. أم كلثوم تتابع بوحها والناس نيام لا صباح يكفيهم للنهوض. الهواء يلفح ملامحه وتتطاير أوراق الدفتر من أمام ناظريه.
يداه لا تتحركان. عارمةٌ هي اللحظة أمامه. ماذا يكتب؟ ومن أين يبدأ؟ والذاكرة متخمة في رأسه. يحاول النهوض عن الكرسي. لا يستطيع. يجد نفسه معلقاً... قدماه علقتا في المكان... حرك عينيه ليمسح عرقه، فحركت دموعه أم كلثوم. عاد إلى الورق وحاول الكتابة من جديد، ليجد الضجة تحاصره من كلّ جنب. لقد استيقظ
المخيم.
أطفأ أم كلثوم ودخل إلى غرفته صامتاً لا حول له ولا قوة.