درجت في لبنان كتابة المذكّرات عن المشاركة في الحرب الأهليّة. ودرج أن يذمَّ بعضُ الأطراف الحرب الأهليّة، لكن مع شيء من المديح الضمني لفريق واحد. محسن إبراهيم تخصّص في ذمِّ دور الحركة الوطنية اللبنانيّة، التي تولّى أمانتها «التنفيذيّة» ــ على ما عناه ذلك من «تنفيذ». وحده اليمين اللبناني الفاشي يتذكّر الحرب بفخر، ويضيف كلاماً منمّقاً دفاعاً عن أنطوان لحد
أسعد أبو خليل *
ذمّ الحرب الأهلية اللبنانية سائد روتينيّاً لدى الأطراف التي كانت في فريق الحركة الوطنيّة اللبنانيّة. وهناك مقولة غسّان تويني (المُنسِّق الرسمي لمفاوضات 17 أيار ـــــ حتى لا ننسى) عن «حروب الآخرين» التي تلقّفها بعض اللبنانيّين بالترحاب لأنها تزيل المسؤوليّة عن كاهل الشعب اللبناني ـــــ غير العظيم. وفق هذه المقولة، قام اللبنانيّون بالقتل على الهويّة والخطف وقطع الأطراف والتعذيب والتمثيل بالجثث بالنيابة عن الآخرين.
هناك بالتأكيد جانب من الحرب الأهليّة يستحق الذمّ والاستفظاع. يكفي أن تقرأ شهادة يوسف بزي في كتابه «نظر إلي ياسر عرفات وابتسم» (ما هذا العنوان؟). يعترف بزي في مقابلات إعلاميّة بأنه كان «أزعر» (والأزعر في «لسان العرب» هو القليل الشَّعر، وهو في المعنى العاميّ المتداول يعني العيّار والوغد، كما يقول عبد الله العلايلي في معجمه ـــــ الذي لم يكتمل لأن ميليشيا الكتائب نهبت بيته في حي بيضون وبعثرت كل محتوياته بعد سرقته مع أن ابن العلايلي، بلال، مُتحالف اليوم مع حزب الكتائب). لكن بزي كان حسب وصفه هو أكثر من أزعر، وتغافل الإعلام اللبناني عن التنديد الواجب بمضمون الكتاب الكريه: فالرجل ـــــ «المُثقّف» في طوره الثاني ـــــ يعترف في كتابه بارتكاب (أو مشاهدة عن قرب لـ) جرائم فظيعة، متعدِّدة ومتنوِّعة: من القتل والاغتصاب والتعذيب والاعتداء والسرقة ـــــ حتى إنه اعترف بسرقة زوجين من النعال ـــــ والخوّة، إضافةً إلى التشبيح المعهود (هذا بصرف النظر عن صدقيّة السرد، وخصوصاً الخاتمة التي يتحدث فيها كيف أنه ارعوى عندما تواجه بالصدفة في خندق مقابل في شارع مع... أخيه، وقد يكون استقى الحادثة من سيناريو فيلم هندي مع أن ذوقه في الأفلام على ما يروي لم يكن هندياً يوماً). وهذا الذي يعترف بجرائمه، والذي لا تمرّ في شهادته ولو إشارة عابرة إلى أي مسألة عقائديّة أو سياسيّة أو أيديولوجيّة ـــــ لأنها لم تكن تعنيه ـــــ أصبح فيما بعد من زبدة ثقافة آل الحريري في نشرة المستقبل.
ثمة تشابه بين خطاب الثنائي شمعون ــ مالك في عام 1958 وخطاب 14 آذار اليوم
لكن من المؤكّد أن كل المقاتلين لم يكونوا على شاكلة يوسف بزي (يقول إن مسؤوله في الحزب اعترف بأن العصابة التي كان ينتمي إليها مثّلت «جرصة» للتنظيم (ص، 53 من الكتاب). لكن الجرائم التي يصفها بزي لحقها العفو العام: مجرمو الحرب الكبار أصدروا عفواً مطلقاً عن مجرمي الحرب الصغار، باستثناء المتعاملين مع إسرائيل، الذين يحظون بعطف خاص من «العروبي ليوم واحد فقط» إذا كانوا من المُنتمين إلى طائفته.
يمثّل المُقاتل المُرتكب لكل أنواع الموبقات التي يذكرها (بفخر؟) يوسف بزي جانباً مُقزِّزاً في تاريخ الحرب الأهليّة، أو في تاريخ الحروب الأهليّة. مِن نواكب الحروب أنها تستدعي حكماً مجرمين ومُغتصبين ونصّابين وسارقين وقتلة ومرتزقة وأوغاداً، ويتسلّل أمثال هؤلاء إلى صفوف مقاتلي الحرب الأهليّة. لكن الأحزاب العقائديّة كانت أكثر مناعةً ضد «الزعرنة» والأوغاد من الأحزاب الطائفيّة أو من الدكاكين التي نشأت بإرادة استخبارات عربيّة أو أجنبيّة، أو بإرادة ياسر عرفات. أي إن ظاهرة المقاتل «الأزعر» كانت أكثر شيوعاً مثلاً في تنظيم شاكر البرجاوي وأقل شيوعاً في التنظيمات الشيوعيّة اللبنانيّة والفلسطينيّة (مع تسرّب أفراد من هؤلاء إلى صفوف بعض التنظيمات). قد لا يعلم يوسف بزي لانشغاله أثناء الحرب ـــــ حسب ما روى لنا ـــــ بالسرقة والقتل واستهلاك أفلام البورنو، أنه كان هناك مقاتلون ومقاتلات عقائديّون وعقائديّات ممن لم تتلوّث أيديهم بالجرائم والسرقات والخوّات. كان هناك مقاتلون يتناقشون في كتابات كارل ماركس، فيما كانت عصابة أبو العباس أو بعض عصابات المرابطون أو الكتائب أو غيرها مشغولة بالسرقة والخوّاتلكن الحروب الأهليّة قد تكون ضروريّة في تاريخ الأمم. الحرب الأهليّة الأميركيّة مَنعت في السرديّة السائدة هنا تمزيق البلاد إلى ولايات ومناطق متناحرة، والحرب الأهليّة الإسبانيّة كانت من أجل منع إنشاء ديكتاتوريّة فرانكو، والحرب الأهليّة الروسيّة كانت من أجل توطيد الثورة الروسيّة وردّ المؤامرة الخارجيّة التي استهدفتها. والحكم على الحرب الأهليّة في لبنان عبر أقوال من نوع «تنذكر وما تنعاد»، أو عبر تلاوة فعل الندامة من قبل محسن إبراهيم مرة كل بضع سنوات فيما يستذكر كتائبيّو وقواتيّو وبعض عونيّي لبنان (حتى لا ننسى بوسي الأشقر الذي خاض الانتخابات متحالفاً مع المقاومة ضد إسرائيل ـــــ صدّق أو لا تصدّق) وأحرارهم معاركَهم ضد لبنانيّين آخرين (يشيرون إليهم بوصف الأغراب للتمويه)، يعبّر عن نيّة لبنانيّة للنكران والنسيان بمساعدة قيّمة من الأقراص المُسكّنة والمُنوِّمة التي يستسيغها شعب لبنان وفقاً لدراسة عالميّة. الحرب الأهليّة اللبنانيّة كانت حتميّة: أي إنها كانت خياراً لفريق واحد من الأطراف المُتصارعة، وبالنيابة عن مصالحه وعن مصالح جهات خارجيّة مرتبطة بالمصالح الصهيونيّة.
الحرب الأهليّة اللبنانيّة (التي تحتاج إلى دراسة جادة إذ إن كتاب فريد الخازن عن سقوط الدولة لا يختلف كثيراً أو قليلاً عن رواية الكتائب للحرب، كما أن كتاب عبد الرؤوف سنو في جزءيه يستفيض ويتوسّع من دون الاستعانة بمُوجِّه نظري أو منهجي، أي إنه يكاد أن يكون موسوعة مفيدة في بعض جوانبها عن الحرب من دون أن يطلع بخلاصة سياسية ونظريّة عنها، ولا ندري إذا كان التمويل الحريري للمشروع قد أثّر في النتاج، وإن لاحظنا أنه أفرد قسماً لتبجيل مؤسّسة الحريري في كتاب عن الحرب الأهليّة من دون ذكر تمويل رفيق الحريري للميليشيات المُختلفة) كانت مشروعاً أميركيّا ـــــ عربيّاً مؤجّلاً منذ 1958.
قد يُفاجأ اللبناني (واللبنانيّة) إذا ما عاد إلى صحف تلك الحقبة وأدبيّات بما سيتبيّن له من تشابه بين خطاب الثنائي شمعون ـــــ مالك في عام 1958 وخطاب 14 آذار اليوم (أو أمس). الكلام هو ذاته عن المؤامرة الخارجيّة وعن السيادة وعن الاستقلال وعن حماية لبنان ـــــ لكن ليس من العدو الإسرائيلي. أما الغايات الرخيصة من نوع التجديد والطمع الرئاسي، فكانت كالعادة في الخطاب السياسي اللبناني مُضمرة. ولا نجد قرائن عن دور إسرائيلي في عام 1958، مع أننا نعلم اليوم من مذكرات أبا إيبان أن مالك (الذي أسبغت عليه بلديّة بيروت غير الممتازة اسم شارع أو جادة أو زقاق ـــــ نسيت) كان صديقاً لإيبان فيما كان يجلس في مجلس الأمن لتمثيل المصالح العربيّة. فشل مشروع أيزنهاور في لبنان واضطرّت الولايات المتحدة إلى عقد صفقة مع مصر أتت بفؤاد شهاب إلى سدّة الرئاسة.
بوادر الحرب الأهليّة والنيّات الكتائبيّة بدأت بالظهور في أواخر الستينات، وخصوصاً بعد مجازر أيلول. كانت عصابات حزب الكتائب ـــــ النسق اللبناني للنازيّة ـــــ تكمن على كوع الكحالة وعاريّا لقوافل أو حافلات تقلّ فلسطينيّين. الهدف كان جرّ الثورة إلى أوحال لبنان. قام النظام الأردني بالمهمّة في مجازر أيلول وسانده الراعي الإسرائيلي، لكن الفلسطيني ــــــ لا اللبناني ـــــ يقوم من الموت، مراراً وتكراراً. علم الإسرائيليون وحلفاؤهم من العرب أن مهمة القضاء على الثورة الفلسطينيّة لم تكتمل. الجيش اللبناني بذل ما استطاع في محاولة فاشلة منه في أيار 1973 لتكرار مجازر أيلول، لكن المقاتل الفلسطيني الواحد أثبت في تلك الفترة وما بعدها أنه يستطيع تولّي أمر نحو مئة من عناصر الجيش اللبناني. كانت تلك الحرب اللبنانيّة ضد المخيّمات آخر استعانة بطائرات هوكر هنتر، التي بقيت منها طائرتان اليوم لتجولا في سماء بيروت من أجل الدلالة على خطة إلياس المرّ الدفاعية للقضاء على... عبدة الشيطان وشهود يهوه. حزب الكتائب كان يقوم بمهمة موكلة إليه، وارتباطات بشير الجميل ـــــ أسوأ لبناني من دون منازع ـــــ الاستخباريّة الخارجيّة (كشفها أكثر من مصدر كان آخره كتاب توم ويينر «إرث الرماد») تفضح بطلان مزاعم شعارات السيادة والاستقلال من جانب الحركة النازيّة اللبنانيّة. أي إن الحرب الأهليّة كانت مشروعاً خارجيّاً بتنفيذ كتائبي، أو مشروعاً كتائبياً مُتوافقاً مع مشروع صهيوني خارجي.
أما الطرف الآخر في الحرب، فلم يكن مستعدّاً للحرب: لا تسليحاً ولا برنامجيّاً. وكان ياسر عرفات يتصدّى بحزم لأي محاولة فلسطينيّة لإسناد قوى الحركة الوطنيّة (كان كمال جنبلاط يشكو دائماً من ألاعيب ياسر عرفات، ومن تعطليه التسليح الجدّي لقوى الحركة الوطنيّة، كما روى لنا كلوفيس مقصود). أي إن الحركة الوطنيّة خاضت الحرب للدفاع عن النفس. وحتى القوى الفلسطينيّة لم تأخذ شن الكتائب للحرب على محمل الجد إلى أن كادت القنطاري والحمرا تسقطان بيد الكتائبيّين عندما قرّرت قوى الثورة الفلسطينيّة وحليفها اللبناني صدّ التمدّد الانعزاليإن تجنّب الحرب الأهليّة كان يعني التسليم بانتصار المشروع الكتائبي ـــــ الإسرائيلي وفرض 17 أيار في 1975. الحركة الوطنيّة خاضت الحرب بأفق إصلاحي مُتمنّع إلى أن وصل كمال جنبلاط ـــــ متأخراً ـــــ إلى قناعة لم يشاركْه فيها لا النظام السوري ولا ياسر عرفات: بضرورة إسقاط المشروع الكتائبي برمّته وكسر شوكة الانعزاليّين. والحرب الأهليّة لها حسناتها، بالرغم من السيِّئات وبالرغم من تسرّب رعاع إلى صفوف المقاتلين من أمثال المذكور أعلاه، وبالرغم من السقوط في المنزلقات الطائفيّة بدعم من أنظمة خارجيّة ومن ياسر عرفات الذي كان يهوى الاختراق عبر الدكاكين والعصابات الطائفيّة والإجراميّة على حدّ سواء.
وذم الحرب الأهليّة ليس فعلاً بريئاً، وخصوصاً أنه يجري فقط من جانب فريق واحد: (فأسعد الشفتري ـــــ الذي كذب في قوله للجزيرة إن حبيب الشرتوني لم يتعرّض للتعذيب عند القوات اللبنانيّة ـــــ صمت عن تلاوة الندم ونقد الذات بعد 2005). وحده محسن إبراهيم ومن انضم من متخرّجي الحركة الوطنيّة إلى حاشية آل الحريري، مثل محمد قبّاني الذي تحوّل من الحركة الوطنيّة إلى كتلة سليم الحصّ ثم إلى فريق الحريري، نادمون. أي إن ذمّ الحرب يؤدّي إلى ذمّ فريق واحد فقط (طبعاً، تستحق الحركة الوطنيّة نقداً قاسياً، لكن من وجهة أخرى، وخصوصاً أن قادتها سخّروها لعرفات وللنظام السوري ولأنظمة السخاء النفطي في حينها، مما أثّر في خياراتها في مسيرة الحرب والسلم). وكيف يستقيم ذمّ الحرب الأهليّة وهي لم تنتهِ بعد؟ ويجب تعداد بعض من حسنات الحرب الأهليّة اللبنانيّة وأفضالها:
أولاً، عمدت إلى زعزعة المشروع الكتائبي ـــــ الإسرائيلي الذي كان يعمل على تأليب كل الشعب اللبناني ضد كل شعب فلسطين. لكن النجاح حالف هذا التأليب في مراحل لاحقة عندما انضمّت ميليشيا حركة أمل إلى رفع السلاح ضد أهل المخيمات، ولحقها الجيش اللبناني بتأييد معظم اللبنانيّين تحت مسميّات حرب بوش «على الإرهاب» في... نهر البارد.
ثانياً، حالت الحرب الأهليّة دون تحقيق الهيمنة الكتائبيّة ـــــ الإسرائيليّة على كل لبنان، بالرغم من استمالة فريق واسع من السياسيّين إليه (عبد اللطيف الزين، العضو في كتلة «التحرير» كان واحداً من الذين صوّتوا لبشير الجميّل في كنف احتلال إسرائيل). الحرب لا السياسة هي التي هزمت وإلى غير رجعة المشروع الكتائبي ـــــ القواتي للهيمنة على لبنان (وإن عاد آل الحريري إلى اعتناق المشروع ذاته فيما بعد تحت مسمّيات مختلفة وبذرائع مراوغة). هذه الهزيمة الشنيعة التي لحقت بالفريق الانعزالي غيّرت من موازين القوى في لبنان وغيّرت من طبيعة النظام اللبناني.
ثالثاً، قضت الحرب الأهليّة على ظاهرة الإقطاع الشيعي المتجذّر ولقرون في الجنوب والبقاع. كان يمكن الإقطاع الشيعي الذي كان يتمتّع بحماية الدولة ودعمها المباشرين أن يستمرّ، وأن ينمو لولا الحرب. وفكرة توريث القيادة السياسيّة لا تزال منبوذة في الوسط الشيعي، وإن كان الجمهور يقبل ذلك فقط في حالة باسم السبع الخاصّة.
رابعاً، الحرب الأهليّة فضحت حقيقة انحياز الدولة وأجهزة الأمن إلى جانب ميليشيات اليمين الطائفي. يزهو ميشال عون ورفاقه اليوم بخوضهم «الحرب» إلى جانب قوات الكتائب والأحرار في مجزرة تل الزعتر مثلاً. كان يمكن جهاز الدولة الرسمي أن يستمرّ في زعم الحياد لو لم تكشف الحرب حقيقة دور الجيش اللبناني ضد الثورة الفلسطينيّة والحركة الوطنيّة.
خامساً، كشفت الحرب اللبنانيّة زيف الشكل الديموقراطي للنظام اللبناني. كيف يمكن مثلاً تفسير هامشيّة دور ممثلي الأمة أثناء سني الحرب مع أن الأفاضل كانوا قد انتخبوا في عام 1972. عبد اللطيف الزين وحميد دكروب وكاظم الخليل نالوا شرعيّة الانتخاب اللبناني في عام 1972.
سادساً، سمحت الحرب الأهليّة لشباب وشابات من لبنان بالتعرّف على واقع المخيّمات الفلسطينيّة وعلى واقع الفقر في المجتمع اللبناني، الذي كانت الإعلانات السياحيّة عن وطن الأرز والبطيخ تحجبُه.
سابعاً، إن واقع القتال ـــــ خارج صفوف عصابات الأوغاد التي تحدثنا عنها ـــــ سمح بدرجة من الاحتكاك الطبقي الذي كان الفصل الطبقي الاجتماعي الصارم في حقبة ما قبل الحرب لا يسمح به.
ثامناً، سمحت الحرب ـــــ قبل ظهور الحركات الدينيّة على أنواعها ـــــ بانطلاق المرأة الفلسطينيّة واللبنانيّة وتحرّرهما، مع أن الحركات الفلسطينيّة واللبنانيّة التي كانت تحت قيادة الذكور فقط لم تسمح باندفاع الطاقة النسائيّة ووصولها إلى مواقع القيادة.
تجنّب الحرب الأهليّة كان يعني التسليم بانتصار المشروع الكتائبي الإسرائيلي
تاسعاً، طوّرت الحرب الأهليّة من الأداء الضعيف والخجول للحركة الوطنيّة اللبنانيّة، التي لم تكن تملك برنامجاً سياسياً واضحاً، قبل اعتناقها للبرنامج الإصلاحي المعتدل (والتي عادت وتخلّت عنه في أول مفصل، ربما بسبب تحالفات محسن إبراهيم وجورج حاوي الإقليميّة، وبسبب تسرّب العناصر الطائفيّة إلى داخل جسم الحركة وقيادتها). كما أن الحركة لم تكن مستعدّة لقبول حقيقة المؤامرة التي كان حزب الكتائب ضالعاً فيها (ونتذكّر أن كمال جنبلاط لام «اليسار المغامر» مباشرة بعد اغتيال معروف سعد في عام 1975).
عاشراً، فرضت الحرب على النخبة السياسيّة اللبنانيّة ضرورة إجراء إصلاح سياسي مع أن «إصلاح» الطائف كان تعبيراً عن انتصار الفريق الطائفي في الخندق المضاد للفريق الكتائبي ـــــ الإسرائيلي.
حادي عشر، فضحت الحرب الأهليّة حقيقة دور الأنظمة العربيّة (النظام السعودي والسوري والعراقي والمصري والأردني والليبي) إلى جانب الفريق الكتائبي ـــــ الإسرائيلي.
ثاني عشر، عزّزت الحرب الأهليّة من مقولة الكفاح المسلّح في مواجهة مشاريع إسرائيل في المنطقة بالرغم من التعثّر والخيبات عبر السنوات.
ثالث عشر، سمحت الحرب الأهليّة بصعود أفراد وفئات من الطبقات الفقيرة والشرائج الاجتماعيّة المُهمّشة الذين كانوا ممنوعين من الحلبة السياسيّة. النخب السياسيّة في فترة ما قبل الحرب كانوا إما من «العصيّ» الذين يأتون على قائمة أحمد الأسعد أو من أبناء الذوات من متخرّجي الجامعة الأميركيّة أو اليسوعيّة. تجهد لتجد متخرّجين من الجامعة اللبنانيّة أو الجامعة العربيّة في النخبة السياسيّة في فترة ما قبل الحرب. أكثر من ذلك، كان بيار الجميل يعارض القبول الرسمي بشهادات التوجيهيّة أو بشهادات الجامعة العربيّة.
رابع عشر، أنتجت الحرب الأهليّة أبطالاً من طراز دلال المغربي أو... «الرجل الخطير» الذي قضى على مشروع النازي اللبناني الصغير بساعد، أو بساعديْن.
خامس عشر، كان يمكن الحرب الأهليّة أن تقضي على المشاريع الطائفيّة في لبنان، لكنها استبدلت طائفيّة بأخرى، أو بطائفيّات ومذهبيّات وإن كانت بدعم خارجي: سعودي وإيراني ومصري.
سادس عشر، الحرب الأهليّة قد تكون ضرورة في المجتمعات ذات التناقضات المتفاقمة والمستمرّة. لم يكن للولايات المتحدّة أن تتقدّم وتتطوّر لو لم يُحسم الخلاف المستحكم بين أنصار الفدراليّة وأنصار حكم الولايات المحلّي. وإن واحداً من أسباب تكرار الحروب الأهليّة في لبنان على امتداد قرنيْن من الزمن ـــــ على أقلّ تعديل ـــــ يعود إلى عدم وصول التناقضات المتفجرّة إلى خواتيمها الطبيعيّة من ناحية غلبة فريق على آخر. والغلبة إذا لم تكن طائفيّة قد تكون ذات منفعة وطنيّة. وفشل حزب الله السياسي في يوم 7 أيار يعود إلى بنيته وعقيدته الطائفيّة. لو كانت 7 أيار جرت على يد الحركة الوطنيّة اللبنانيّة (التجربة التي يتحمّل مسؤوليّة وأدها وليد جنبلاط ومحسن إبراهيم وجورج حاوي) لما استطاع تيار الحريري أن يستعملها لغاياته المذهبيّة المقيتة.
وأهميّة مشروع الحسم العسكري الذي وصل إليه كمال جنبلاط متأخراً تكمن في تحقيق حلّ شامل وجذري لأزمة لبنانيّة تفاقمت عبر العقود. وشعار صائب سلام («لا غالب ولا مغلوب») كان يهدف إلى منع الحسم في التغيير من أجل التمييع لمصلحة تغييرات طائفيّة هنا وهناك وهنالك.
سابع عشر، هزمت الحرب ميليشيات إسرائيل بين ظهرانينا وكشفت عمق التغلغل الإسرائيلي في المجتمع والسياسة في لبنان. ومشهد هرب عملاء جيش لحد كان يستحق التخليد في أكثر من طابع بريدي.
ليست هذه دعوة إلى العودة إلى الحرب الأهليّة، ولكن من الغباوة عدم توقّع عودتها الحتميّة (وكل عودة وأنتم بوافر الصحة) لأن جميع من اتُّفق على وصفهم اعتباطاً بـ«الشعب اللبناني» لم يحبّوا بعضهم بعضاً ولم يتآلفوا إلا في مسرحيّات شكليّة وبالقوة والاصطناع المفرط. لكن هناك فريق في لبنان ـــــ أو أكثر من فريق في لبنان، ومن أكثر من طائفة ـــــ لم يفكّ ارتباطه بالمشروع المُناصر لإسرائيل في المشرق العربي. والحنين للحرب الأهليّة ليس إلا حنيناً لبعض من شعاراتها التي لم يعف عليها الزمن الطائفي، والتي تمثّل في بعضها برنامجاً يصلح للقرن الواحد والعشرين، وخصوصاً في حقبة احتدام الصراع المذهبي. لكن هذا يتطلّب شروطاً غير متوافرة: إلا إذا أُسندت أكثر من وزارة إلى كسّارات فتّوش.

* أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)