في مجتمع ذكوري «محافظ جداً»، بل يمكن القول إنه مقفل، تمكنت سيدة ثلاثينية من انتزاع حقوقها انتزاعاً، بمجهود شخصي فيه الكثير من الإصرار والعزيمة. لتنتقل بعدها إلى مرحلة ابتكار مبادرات فردية جريئة، حازت الإعجاب والتقدير من الجنس الخشن قبل اللطيف. نقدم لكم حمرا أبو عيد
البقاع ــ رامح حمية
مشاكسة منذ نعومة أظفارها. دخلت المدرسة في وقت «ما في حدا من عمرها بيدخلها حتى الذكور». تلعب كرة القدم، تمارس رياضة الركض في الصباح الباكر، ولعل الأكثر جرأة في زمن «العيب البدوي» كان أن ترتدي التلميذة حمرا أبو عيد، زي المدرسة المتمثّل، يا للفضيحة، بمجرد... بنطلون وقميص. «حاربت بشراسة»، تقول حمرا التي تنتمي إلى عشيرة العيدية البقاعية، والتي التقيناها هناك، بين بيوت أهلها. «سندي الأول كان، وهو من حماني حتى تمكنت من التعلم والوصول إلى المستوى الجامعي»، تختصر حمرا بهذه العبارة طريقة انتزاعها حقها في التعلم والدراسة، وتعزو السبب في ذلك إلى «النظرة المستقبلية عند البدو التي كانت في السابق تقتصر على الأمور الزراعية وتربية المواشي». كذلك لا تغفل الإشارة إلى مرحلة ما قبل حصول عشيرتها على الجنسية، فالضبابية التي كانت تحيط بمصير حصولهم عليها، بالإضافة إلى السبب الأساسي في منع الفتيات من الذهاب إلى المدرسة المتمثل بخوف «العرب» ـــــ كما كل العشائر ـــــ على بناتهم، «عرضهم وشرفهم»، والويل لمن يقترب.

خطوبتها لابن عمها كانت بمثابة الضربة القاضية لمتابعتها العلمية

ارتفع عدد المشاركين في دورة محو الأمية إلى 25
والدها دعيبس، بسبب وظيفته مسؤولاً عن مواشي كلية الزراعة في الجامعة الأميركية ورؤيته المستمرة للطلاب من الجنسين فيها، وبالنظر إلى مطالبة إدارة الجامعة بإنجاز أوراق جنسية «قيد الدرس»، بغية توفير الضمان الصحي له ولعائلته، سجّل أولاده في المدرسة. ومنذ البداية، تميزت حمرا وتفوقت على إخوتها. هكذا تخلى هؤلاء عن الدراسة، لتبقى منفردة وتبدأ معها «مرحلة المشاحنات والمناكفات» مع المجتمع البدوي المحافظ، وخاصة أنها كانت قد بدأت مرحلة البلوغ. وبفعل إصرارها وعزيمتها ودعم والدها، تمكنت حمرا من نيل شهادة الثانوية العامة، لتفتح من جديد معركة دخول الجامعة والتخصص في الفلسفة العربية، حيث انتصرت أيضاً. لكن آمال متابعة السنة الثانية تبددت مع تقدم ابن عمها لخطبتها، وكان ذلك بمثابة الضربة القاضية لمتابعتها العلمية.
عائلة «أم حسين»، وهي كنية حمرا اليوم، المؤلفة من زوج وأربعة أولاد، لم تمنعها من المثابرة على المطالعة، والاحتكاك الدائم مع العائلات، وخاصة الفقيرة منها، بغية الاهتمام بها والتفتيش الدؤوب عن حلول ممكنة لمشاكلهم، وذلك كله في ظل «وضع مادي متوسط لا يسمح بالتحرك ضمن دائرة واسعة». ولأن في المجتمع البدوي في حوش العرب نسوة لا يعملن، كانت فكرة «نوف»، وهي «إعادة إحياء التراث البدوي وتوفير دخل مادي للنسوة المشاركات»، وهي العنوان الأساسي لأولى المبادرات الفردية التي أطلقتها حمرا. الفكرة تنطوي على خياطة وتطريز أغطية لـ«المخدات» التي تستخدم في غرف الجلوس والضيافة، سواء الشرقية منها أو الغربية، وعنها تقول حمرا: «إن المبادرة بسيطة جداً، الهدف الأساسي منها ينطوي على شقين أساسين: أولهما، توفير عمل لعدد من النسوة اللاتي لا يستطعن العمل في السهل وتوفير مورد رزق لهن. وثانيهما، إحياء التراث البدوي الذي اندثر واختفى ذكره ووجوده منذ أكثر من عشرين سنة». هكذا حصدت مبادرة حمرا الإعجاب والتقدير، حتى بات معظم البدو في حوش العرب يعتمدون على المشروع الذي أصبح بالنسبة إليهم «كبطاقة هوية أو بطاقة تعريف لهم لكونهم عرباً في بلدة صغيرة في البقاع اسمها حوش العرب، في لبنان أو الدول العربية والأجنبية».
نجاح مبادرة حمرا الأولى لم يردعها من التفتيش عن حلول للعديد من المشاكل التي يغصّ بها مجتمع البدو في حوش العرب. فدكانها الصغير في أحد غرف منزلها على طريق حوش سنيد ـــــ النقطة الرابعة العام، لأنه يمثّل وسيلة احتكاك مباشرة مع الناس، مكّنها من التعرف إلى أحوال أهالي بلدتها حوش العرب والقرى المجاورة لها، وأوضاعهم الاجتماعية والصحية والمادية، بالإضافة إلى انتماءاتهم السياسية. ولعل أكثر ما «يجرح» «أم حسين» كل يوم استفسار معظم النسوة في حوش العرب منها عن وصفة طبيب أو إخراج قيد أو ورقة من إدارة إحدى المدارس. وتعزو السبب في ذلك إلى اتساع دائرة الأمية في البلدة، بعدما بدأت عدم معرفة القراءة والكتابة لدى الأهل تنعكس سلباً على أداء أبنائهم في المدارس، بالنظر إلى عدم متابعتهم لواجباتهم ودروسهم، ما ينتج من ذلك ترك الأولاد لمدارسهم في مرحلة التعليم الأساسي، وهو ما ظهرت نتائجه في وصول نسبة الأمية إلى 90%. وتضيف «أم حسين» أن مشكلة الأمية باتت تؤثر أيضاً على «نصيب» الفتيات بالزواج، فالشباب حالياً يفتشون عن الفتاة المتعلمة التي يمكنها مساعدة أبنائهم في المدرسة، وتقول: «إنها جريمة ترتكب بحق الإنسان، عندما لا يسأل أحد عنا، لا دولة ولا جمعيات مدنية وأهلية»، وتتابع «أم حسين» بحسرة وأسى: «آخر هم لدى الجميع بيتعلموا أهل حوش العرب أو ما بيتعلموا».
من هنا، حرصاً من «أم حسين» على أبناء عشيرتها، كان لا بد لها من «خطوة جريئة» تقوم بها لتساعد من خلالها بالتخلص من هذه «الآفة الاجتماعية»، فكانت فكرتها إقامة دورة لمحو الأمية في إحدى غرف متوسطة البلدة الرسمية تعطي فيها دروساً بتعليم القراءة والكتابة لكل من يرغب. الخطوة، على الرغم من أنها لم تلقَ آذاناً صاغية، ولا اهتماماً جدياً في المجتمع البدوي، إلا أنّ حمرا استمرت بالعمل عليها بإصرار كبير، فسارعت إلى إنجاز سائر الإجراءات المطلوبة لبدء الدورة، بدءاً من إذن مديرة المتوسطة الرسمية، مروراً بترخيص وزارة التربية، وصولاً إلى طلب المساعدة بطباعة الكتب من الجامعة الأميركية التي وافقت ونفذت. إذن دورة محو الأمية انطلقت وارتفع عدد المشاركين حتى 25 من مختلف الفئات العمرية.
لا تسمح «أم حسين» لليأس والمشاكل بأن يتغلبا عليها، فمبادراتها كما تقول: «لم تنته بعد، وما دامت الدولة غائبة، فالمشاكل موجودة ولا بد لأحد من السعي لإيجاد حلول». ففي حوش العرب لا وجود لمستوصف طبي يوفر ولو جزءاً بسيطاً من المعالجة الطبية والأدوية لمواطنين لبنانيين، في ظل وضع مادي لا يسمح بدخول العيادات الخاصة والمستشفيات، ما يضطر الأهالي عند مرض أحدهم إلى التفتيش عن سبيل لإدخاله مستشفى حكومياً، أو للاستفسار عن دواء باقٍ عند مريض سابق. الوضع الصحي في حوش العرب استدعى من حمرا، في مبادرة جديدة، السعي منذ فترة وجيزة إلى التفتيش عن «باب يساعد في فتح مستوصف طبي في البلدة يوفر على الأهالي العناء والمشقة».


فاعلة خير

منذ سبع سنوات كفلت حمرا أبو عيد فتاة يتيمة في الهرمل، عبر مؤسسة المبرات، وكذلك توفر المساعدة المادية بطريقة سرية «فاعل خير»، لخمسة بيوت (ثلاثة في بلدتها واثنان في بلدتين مجاورتين) «لأناس معدمين» ليس لديهم أي نوع من مقومات الدخل المادي، وذلك بالنظر إلى الإعاقات والأمراض الموجودة لدى هذه العائلات