المناضل الأممي «متفائل» بالمستقبل
عاش سنوات الحرب في بيروت، وتركها بعد عام على الإجتياح الإسرائيلي. مع ذلك، مكتبه في لندن مليء بهموم اصطحبها معه من موطنه: الصراع العربي ــ الإسرائيلي، الهيمنة الأميركية وتدهور أوضاع التنمية، وتراجع اليسار العربي، وصعود الأصولية...

مصطفى بسيوني
على باب مكتبه في «معهد الدراسات الشرقية والأفريقية» في «جامعة لندن» لوحة صغيرة كتب عليها «البروفيسور جلبير الأشقر». تقرأها فتجد، فور دخولك، حلاً لمشكلة الألقاب. لكن ما إن تناديه «بروفيسور»، حتى يبادرك بحسم: «نادني الرفيق جلبير ودَع الدرجات العلمية جانباً». مكتبه مليء بهموم اصطحبها معه من موطنه: الصراع العربي ــــ الصهيوني، والهيمنة الأميركية على الشرق الأوسط، وتدهور أوضاع التنمية، وتراجع اليسار العربي، وصعود الأصولية... جلبير الأشقر الذي ولد في السنغال عام 1951 لأبوين لبنانيين، ثمّ انتقل في الثامنة من عمره إلى لبنان، تكوّن وعيه السياسي في مرحلة مهمّة من تاريخ المنطقة: «اعتنقت الماركسية وأنا في سنواتي المدرسية الأخيرة، ومارست العمل والنشاط السياسي منذ ذلك الحين، وخصوصاً بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967. تلك السنة كانت سنة التجذّر الحقيقية بالنسبة إليّ في قضايا العالم العربي، قبل أن تلفحنا رياح التحرّر العالميّة في عام 1968».
تلك اللحظة الحاسمة في تاريخ المنطقة تركت بصمتها واضحةً على مؤلفاته. اختار التجربة الناصرية في مصر، مشروعاً لأطروحته لنيل درجة الدكتوراه عام 1974. مساره الأكاديمي هذا أوقفته الحرب الأهليّة اللبنانية، فاستأنفه لاحقاً. «عشت سنوات الحرب في بيروت الغربية، وتركتها بعد عام على الاجتياح الإسرائيلي (1982). كنت قد توصّلت، حينذاك، إلى قناعة مفادها أن انسحاب المقاومة الفلسطينية من المدينة سيكون له أثر في تسريع أفول اليسار اللبناني. شعرت بأنّ ذلك من شأنه تكريس المنحى الطائفي للصراع اللبناني. هكذا، غادرت إلى باريس حيث واصلت نشاطي الأممي». أطروحته التالية كانت عن الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، في ضوء العدوان الأميركي على العراق عام 1991، ونال عليها درجة الدكتوراه عام 1993 من «جامعة باريس الثامنة» التي كان قد مضى ثلاث سنوات على انتسابه إليها أستاذاً محاضراً.
انقضت مرحلة التسعينيات المليئة بالنشاط الفكري، وأصدر أوّل كتاب له باسمه الصريح، وجاء بالفرنسيّة تحت عنوان «الحرب الباردة الجديدة: العالم بعد حرب كوسوفو» (PUF ــــ 2000). بعد ذلك، توالت الإصدارات. نشر «صدام الهمجيات: الإرهاب، الإرهاب المقابل والفوضى العالمية قبل 11 أيلول وبعده» (دار الطليعة ــــ 2002)، و«الشرق الملتهب: الشرق الأوسط في المنظور الماركسي» (الساقي ــــ 2004)، وكتيباً مع ميخائيل فارشفسكي عن عدوان تمّوز 2006 «حرب الــ33 يوماً: حرب إسرائيل على حزب الله ونتائجها» (الساقي ــــ 2007). أمّا أحدث كتبه «السلطان الخطير» (الساقي ــــ 2007، ترجمة: ربيع وهبة وأمل حوا)، فهو عمل مشترك مع المفكر اليساري الأميركي نعوم تشومسكي، وفيه يتحدث الكاتبان عن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. واليوم ننتظر صدور كتابه «العرب والمحرقة النازية، حرب الروايات العربية الإسرائيلية».

النكسة تركت بصمتها على مؤلفاته، فاختار التجربة الناصرية مشروعاً لأطروحته وغاص في هموم المنطقة العربية محاولاً تقديم تحليل معمق لأزماتها المزمنة
عبر هذا الإنتاج الفكري الذي عرف طريقه إلى 15 لغة حتى الآن، منها الفارسية والتركية والصينية، غاص جلبير الأشقر في هموم المنطقة العربية محاولاً تقديم تحليل معمق لأزماتها المزمنة، بعيداً عن التجريد الأكاديمي. «المنطقة العربية أصبحت أكبر تجمع للاستبداد والديكتاتورية في العالم، على رغم الانفراجات الديموقراطية في أميركا الجنوبية وآسيا وأفريقيا... ما يسمّونه ديموقراطيات في المنطقة لا تعدو كونها فيدراليات طائفية مثل لبنان والعراق».
رغم ذلك، يجد «الرفيق جلبير» طريقه إلى التفاؤل: «تكفينا ثلاثون عاماً من التشاؤم... هناك بصيص من الضوء. الأصوليات التي صعدت مدفوعة بهزيمة المشروع الناصري، تبدو اليوم قابلة للتراجع، لا سيما في ضوء الأحداث الإيرانية الأخيرة. الأنظمة الاستبدادية تمر أيضاً بأزمات شديدة، ونشهد ظهور حركات عمّالية صاعدة في بعض دول المنطقة، وخصوصاً في مصر، ما يفتح الطريق لبناء تجربة على الطريقة البرازيلية في منطقتنا... هذا احتمال وارد».
توصيف الأشقر للعلاقات بين أميركا من جهة، وروسيا والصين من جهة ثانية، في كتابه «الحرب الباردة الجديدة»، وتوقعاته بتراجع اليسار وتضاعف أزماته بعد خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، وما رافقه من تصاعد للطائفية والأصولية، أثبتته التطورات التاريخيّة اللاحقة. مع ذلك، تراه حذراً دائماً في ما يتعلق باستشراف المستقبل. ينأى بنفسه دائماً عن إطلاق النبؤات، ويهتم برصد ما يجري على أرض الواقع من منظور يجمع بين النظرية والممارسة.
هذا ما جعله يجمع قبل أسابيع نشطاء وباحثين ونقابيين وقيادات عمالية مع أكاديمين في ورشة عمل واحدة عن الحركة العمالية في مصر في «جامعة لندن». يعتبر الرجل أنّ إضرابات العمّال في مصر تحمل مخاضاً محتملاً، وأنّ حصر فهم ما يجري بالجوانب الأكاديمية فقط لن يجدي، وهناك ضرورة لسماع صوت المشاركين في تلك الحركة وصنّاعها.
منذ عام 2007، حوّل جلبير الأشقر كرسي دراسات التنمية والعلاقات الدولية في «معهد الدراسات الشرقية والأفريقية» في «جامعة لندن»، إلى منبر جديد لمناقشة قضايا الحرية والتنمية في المنطقة. إلى جانب عمله الأكاديمي، تراه مُشاركاً في حملات مناهضة العولمة والحرب والصهيونية والإمبريالية، وحملات دعم الانتفاضة والمقاومة... هكذا يوحِّد جلبير الأشقر أفكاره الماركسية مع ممارسته النضالية، ويمحو تلك المسافة الفاصلة بين بروفيسور الأشقر والرفيق جلبير.


5 تواريخ

1951
الولادة في السنغال
من أبوين لبنانيين، قبل الانتقال
إلى وطنه الأم في الثامنة

1967
جعلته النكسة
يعتنق الماركسيّة

1983
غادر بيروت إلى باريس،
حيث نال بعد 10 سنوات درجة الدكتوراه من «باريس ــــ 8»

1999
صدر أول كتبه
«الحرب الباردة الجديدة»
بالفرنسيّة عن دار Puf

2009
وضع اللمسات الأخيرة
على كتابه «العرب والمحرقة النازية»
الذي يصدر مطلع 2010