نهلة الشهال


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

في الوقائع البسيطة والمباشرة، تطرد إسرائيل منذ أيام مزيداً من سكان حي الشيخ جراح في القدس من بيوتهم وتصادرها لمصلحة المستوطنين، وتمنع فوق ذلك ممثلي الأمم المتحدة من تفقّد المكان والناس... ما يضطرّ المنظّمة الدولية إلى إصدار بيان رسمي، ولكن من يأبه! وإسرائيل تقول إنها ضاقت ذرعاً بإيران، وفي الوقت نفسه بعجز مجلس الأمن عن اتخاذ ما تراه هي لازماً من عقوبات بحقها، ولذا فستلجأ إلى دبلوماسيّتها الخاصة لتطبيق «إجراءات». والبارحة جدّدت تهديدها للبنان، بأن «كل شعرة تُمَسّ» لدبلوماسيّيها أو لرعاياها في الخارج، ستعاقب عليها حزب الله بقوة، حتى لو كان الفاعل هو القاعدة! وفي اجتماع مجلس الوزراء الإسرائيلي الأخير، تلا نتنياهو فعل ندامة على الانسحاب من غزة وإجلاء المستوطنات، قائلاً إنّه خطأ لن يتكرر!
عمَّ نتكلّم إذاً؟ وهل حقاً رياح البيت الأبيض تجري بما لا تشتهي سفن تل أبيب؟ تحت ستار التروّي والتأنّي، عيّنت واشنطن ـــــ وكرّرت منذ أيام على لسان كل المعنيين بالأمر من مسؤوليها ـــــ «المثلث الذهبي» لما تراه تأسيساً لمناخات استعادة عملية سلمية: تجميد إسرائيل الاستيطان، مقابل ضبط الأمن ومكافحة الإرهاب ووقف التحريض من قبل الفلسطينيين، و«خطوات ملموسة» باتجاه التطبيع من قبل العرب. وهي تسمّي ذلك استراتيجية! سيفشل السيّد أوباما في هذا الملف، ولن يضيره ذلك بشيء. سيتحدث عن تقدم وخطوات، ثم ينتقل إلى نقاط أخرى يعتدّ بها أمام ناخبيه وأمام كاميرات العالم...
وأما الأنظمة العربية بكل تعبيراتها، فتتذاكى في أحسن الأحوال، وتواجه هذه الحالة بـ«التثمين الإيجابي» والمسايرة، غير آبهة إلا بحسابات ما يناسب استمرار وجود العصبة الحاكمة فيها في السلطة، حتى على مزبلة، ومن بعدها الطوفان. ولكن المشكلة الأكبر تكمن في غياب الصوت المقابل، الذي لا يعتمد على تحريك العواطف العامة فحسب، وقد بقي منها القليل بسبب الاستخدام المفرط لها، وبسبب الإنهاك العام، وخصوصاً بسبب أنها لا تؤدي إلى نتائج: هل علينا انتظار مأساة بحجم غزة ليتحرك ما يقال له «الشارع»؟ ثم والأهم، وبصدق، كم تحرّك فعلياً، وإلامَ أفضى تحركه؟ إذا كانت الأنظمة العربية تكذب، بحساب، في إعلامها وتصريحات مسؤوليها، فعلى القوى التي لا تعجبها حالنا السائدة اليوم أن تكفّ، هي على الأقل، عن الكذب والتكاذب، ونشر الأوهام (بدعوى الخوف من مزيد من إحباط الناس)، معتبرة أنه «يجب» أن يقال إن هناك منجزات، أو إنها وراء الباب... والأنكى هو حين تظنّ أن هناك حقاً منجزات!
لقد أمكن إبقاء الصراع قائماً، ولم تفلح الهجمة الأميركية ـــــ الإسرائيلية السالفة، والمتميزة بالعنف الشديد والمباشَرة، في القضاء على قوى لا تنضوي تعريفاً تحت سقف رؤيتها. حدث في لبنان في صيف 2006، وعاد فحدث في غزة مطلع العام الجاري. ولكن ذلك لا يكفي، بل من الخطير اعتباره كافياً لموازنة الموقف. ومن الأخطر اعتباره قابلاً للتكرار، وفي ذلك استحالة لألف سبب وسبب. والأخطر من كل شيء هو قدرة القوى المهيمنة على استيعاب تلك القوى ضمن آليات حركتها، وإن من دون إرادتها أو موافقتها (أو حتى إدراكها). وهو تماماً ما يؤدي إليه غرق حزب الله، واقعياً، في الرمال المتحركة للمعادلة الطائفية في لبنان (والمنطقة)، وكذلك إمعان حماس في منافسة فتح على السلطة، واعتبارها انتزاع اعتراف دولي رسمي بها هو النصر بعينه. إنه تموضع على أرض ـــــ وفي مساحة ـــــ المنطق السائد وعلاقاته. ويفترض ذلك، كي يكون فعالاً وإيجابياً، قدرة على التعايش مع ذلك المنطق السائد، أي على إجراء تسوية معه، بينما تلحّ الحاجة للشروع في بناء الحالة البديلة بكل تفاصيلها الملموسة: تصورات، ومخططات، وأدوات، وشبكات... تعيد الاعتبار لما جرى تجاهله على مدى السنوات الماضية، أي للصلة بين المحلي والإقليمي والعالمي، ليس تضامناً، بل تفاعلاً متبادل التأثير. وهي بالطبع ليست مهمة موكلة لحزب الله أو لحماس وحدهما. ولكن يفترض أنهما معنيان بها، بحكم الموقع الذي اختاراه. ولكنها مهمّة تقع على من لا يريد الوصول إلى لحظة يُسقط فيها بيده، وهي وشيكة! وأما البديل الآخر للتصدي لهذه المهمة المؤجلة باستمرار، فهو المراهنة على القدرة على تفجير وتسييد «الفوضى الخلاقة»، فوضانا هذه المرة، بحيث لا يتحكم أحد بشيء. حالة موسعة من المشهد الصومالي مثلاً، تفككاً وتناحراً ومآسي: وللتذكير فحسب، فقد حمت الشركات الدولية الخاصة، الأمنية والنفطية، مصافي البترول وطرق تصديره حتى الموانئ، إبان الفوضى الجزائرية في التسعينيات، فلم تُمسّ. ولكن المجتمع دفع الثمن الأفدح. والأمثلة المشابهة، ما عدا التفاصيل، كثيرة. فماذا نريد؟