معتصم حمادة *الكل كان لديه إحساس سياسي بأن «الدولة» الفلسطينية أمر «مختلف». وما كُشف عنه أخيراً، عبر تسريبات صحافية، بدأ يؤكد ذلك. ولا يقلل من أهمية المعلومات المتوافرة أنها جاءت في تسريبات صحافية، فقد اعتدنا في السياسات الإقليمية، والدولية، أن تصلنا مشاريع الحلول عبر تسريبات صحافية تمثّل بالونات اختبار لردود الفعل. وبناءً على هذه الردود يُعاد صياغة هذه الحلول، وتعديلها، لتصبح أكثر قابلية للنجاح في أعين الرأي العام.
ما جرى تسريبه أخيراً أن إدارة أوباما تنوي اعتماد الملحق الأمني لوثيقة «جنيف ـــــ البحر الميت» أساساً لقيام الدولة الفلسطينية، وأن هيلاري كلينتون، وزيرة خارجية البيت الأبيض، تبحث في هذا الأمر مع رئيس مجلس الأمن القومي الأميركي جيمس جونز. ولتأكيد صحة هذه المعلومات، من المفيد العودة بالذاكرة إلى تصريح لرئيس طاقم البيت الأبيض رام عمانويل، قال فيه إن «مبادرة جنيف تعدّ أساساً للاتفاق الدائم» بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. كذلك استندت تلك التسريبات إلى تأكيد الرئيس أوباما نيته إتمام الحل النهائي خلال سنتين، موضحة أنه كان يقصد بذلك الملحق الأمني للوثيقة المذكورة.
ونظرة إلى الملحق المذكور تقودنا إلى المعلومات التالية:
ــ «الدولة» الفلسطينية ستكون منزوعة السلاح، ولن يكون بمقدورها امتلاك أكثر من قوة شرطة «معزّزة» لأغراض داخلية في مقدمها ضبط الوضع الأمني، بما في ذلك منع تسلل المسلحين الفلسطينيين في أعمال ضد الإسرائيليين، في المستوطنات وداخل إسرائيل.

يريد أوباما من الفلسطينيين أن يعيدوا صياغة مصالحهم لتنسجم مع المصلحة الأميركية
ــ خط الانسحاب الإسرائيلي (وعلى مراحل) سيكون إلى «الجدار» (جدار الفصل والضم العنصري الذي اقتطع مساحات شاسعة من أراضي الضفة وضمها إلى «دولة إسرائيل» في إطار رسم الحدود بين «الدولتين») وهو ما يؤكد صحة ما كشفه الفلسطينيون أن «الجدار» هو خط الحدود بديلاً لخط الرابع من حزيران. وفي هذا الأمر انتهاك لقرارات مجلس الأمن، ومبدأ عدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، واستخفاف فظ بقرار محكمة العدل الدولية في لاهاي.
ــ تضم إسرائيل الكتل الاستيطانية في الضفة، مقابل أراض في جنوب إسرائيل تضم إلى الضفة والقطاع، (لا نناقش هنا أهمية ما سوف تضمه إسرائيل مقارنةً بـ«تدني» أهمية ما سوف تضمّه إلى الفلسطينيين لكون الأمر بات معروفاً للرأي العام. الأمر الذي يستحق النقاش هو مبدأ تبادل الأرض نفسه الذي ينسف مبدأ الانسحاب حتى الرابع من حزيران (يونيو). كذلك ما يستحق النقاش هو ضم إسرائيل لشاطئ البحر الميت الذي يحرم الفلسطينيين حقهم في ثلث مساحة هذا البحر).
ــ تبقي إسرائيل قوة عسكرية رئيسية في غور الأردن، وتحتل مواقع استراتيجية في قمم الضفة بذريعة إقامة محطات إنذار مبكر. هذه مواقع إسرائيلية لا تخضع لرقابة الفلسطينيين. وتفسير وجودها واضح لمن يُلمّ بأبسط قواعد التجسس وأبسط قواعد الاحتلال العسكري.
ــ في داخل «الدولة» الفلسطينية، ستخصَّص طرق وشوارع ومعابر، يتنقّل عليها الإسرائيليون دون غيرهم، أي تحرم على الفلسطينيين مدنيين وغير مدنيين. ويحق لهؤلاء الإسرائيليين، وفقاً لذلك، التنقّل بين «الدولة» الإسرائيلية و«الدولة» الفلسطينية دون جواز سفر ودون تأشيرات، أما الفلسطينيون، فيحتاجون في المقابل إلى جوازات سفر وتأشيرات لدخول إسرائيل.
ــ إذا فشلت أجهزة الأمن الفلسطينية في ضبط الأمن ومطاردة «المسلحين الفلسطينيين»، فإن قوة دولية ستكون جاهزة لمثل هذا العمل، من حقها أن تتوغل في أراضي «الدولة» الفلسطينية وأن تنوب عن الأمن الفلسطيني (العاجز) في أدائه لمهماته. طبعاً، سيبقى الطرف الإسرائيلي هو الأكثر ترجيحاً في الحكم على أداء الأمن الفلسطيني، وبالتالي سيكون هو صاحب القرار في إطلاق يد القوة الدولية لتتوغل في الأرض الفلسطينية.
ــ مصير القدس الشرقية ومستقبلها ما زال الغموض يلفّهما، والغموض هنا مقصود والهدف منه هو عدم إثارة الزوابع وإفساح المجال لتمرير البنود الواردة إعلاه.
وهكذا، لو حاولنا أن نعيد تجميع الصورة لوقفنا أمام المشهد الآتي:
ــ المقصود بـ «الدولة» الفلسطينية كيان جرى تفصيله وفقاً للمصالح الأمنية والسياسية والاقتصادية الإسرائيلية. وهو أقرب إلى الحكم الذاتي تحت إشراف مشترك إسرائيلي ـــــ دولي، منه إلى دولة تتمتع بالحد الأدنى من علامات الاستقلال.
ــ «الدولة» كيان لا يمارس السيادة على أرضه، فأجزاء منها ستضم علناً إلى إسرائيل، وأجزاء أخرى ستضم بصورة غير علنية (المواقع العسكرية) وأجزاء ثالثة سيكون لونها رمادياً. في كل الأحوال، ما سيُستقطع من الأرض الفلسطينية سيحوّل «الدولة» إلى «جزر» وإلى «مستنقعات» و«كانتونات» مشتتة وممزقة، لن تكون «قابلة للحياة» وهو رهان بعيد المدى، على أن يعيد الفلسطينيون النظر لاحقاً في واقعهم الهش هذا، لمصلحة البحث عن حلول بديلة، قد يكون من بينها «الاتحاد الاقتصادي» الثلاثي (الأردن ـــــ فلسطين ـــــ إسرائيل) أو صيغ أخرى، تقود كلها إلى تذويب الكيان الفلسطيني في كيانات إقليمية أكثر قدرة على «الحياة».
ــ مثل هذا الحل يتجاهل بطبيعة الحال اللاجئين الفلسطينيين وحقهم في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم، في المقابل، يفتح الباب أمام إسرائيل لاستقدام موجات جديدة من الهجرة مستفيدة من الأرض الفلسطينية التي ضمتها إليها، وقدرة هذه الأرض (من حيث المساحة ومن حيث الخصوبة وتوافر المياه) على استقبال المهاجرين اليهود. وبالتالي: تحل قضية اللاجئين الفلسطينيين ـــــ كما قال نتنياهو ـــــ خارج الضفة والقطاع ومناطق 48، بينما «تحل» القضية المزعومة لليهود في العالم، فوق أرض الضفة ومناطق الـ 48.
وخلاصة القول إن من كان يحلم بدولة فلسطينية كاملة السيادة، بحدود الرابع من حزيران، وعاصمتها القدس، لا بد أن يكتشف أن مثل هذا الحل سوف يجهض له حلمه.
وبالتالي فإن حديث أوباما عن الدولة الفلسطينية باعتبارها مصلحة أميركية، حديث واضح: إنّ مصلحة أميركا فوق كل المصالح، وعلى الفلسطينيين أن يعيدوا، طبقاً لأوباما، صياغة مصالحهم لتنسجم مع المصلحة الأميركية وتخضع لها.
كما أن حديث أوباما عن «حل الدولتين» يحمل في طياته ألغاماً متفجرة، أكثرها تفجراً، هو رفضه الاعتراف بالحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، وهو ـــــ أيضاً ـــــ رفضه الاعتراف بقرارات الشرعية الدولية بما فيها القرار 242 الذي تدّعي أميركا في كل مناسبة أنه أساس الحل بين الجانبين. وهو ـــــ أيضاً وأيضاً ـــــ التزامه المصالح الإسرائيلية على حساب المصالح الفلسطينية حتى لو تعارضت المصالح الإسرائيلية مع قرارات الشرعية الدولية ومبادئ حقوق الإنسان، ومبادئ القانون الدولي.
«معركة» أوباما مع نتنياهو لوقف الاستيطان وتجميده، إلى أن يجري التوصل إلى حل نهائي، باتت معروفة المقاصد والأهداف. ولا نعتقد أن بإمكان أوباما أن يبيعنا هذه «المعركة» باعتبارها انحيازاً لمصلحة الحقوق الفلسطينية في الوقت الذي تتهيّأ فيه إدارته لتبيعنا «حلاً نهائياً» من شأنه أن ينهي القضية الفلسطينية وأن ينهي حقوق شعبنا.
* عضو المكتب السياسي
للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين