بيسان طياقتحم رجال الأمن «مسرح البيكاديللي» في بيروت، ذلك المساء من عام ١٩٦٩، ومنعوا الجمهور من الدخول. لكن أعضاء «محترف بيروت للمسرح»، أصرّوا على مواصلة تقديم مسرحية «مجدلون» التي تحكي عن العمل الفدائي في مواجهة العدوّ الإسرائيلي وعن تخاذل الأنظمة العربيّة، انطلاقاً من قرية في الجنوب اللبناني. توجّه الممثلون، يتقدّمهم روجيه عسّاف ونضال الأشقر إلى مقهى الـ«هورس شو» القريب في الحمرا، واستأنفوا العرض أمام جمهور موزّع بين الدهشة والحماسة. نحن على أبواب السبعينيات المجيدة، وفورانها الثقافي والفنّي والسياسي... وتلك الواقعة ستبقى في الذاكرة الجماعيّة، من علامات تلك المرحلة الخصبة، المشرعة على المشاريع والأحلام.
هنري حاماتي كان أحد رموز تلك المرحلة، وعليه وقع خيار «محترف بيروت» آنذاك، بعد محاولات سابقة لم تثمر مع آخرين، لكتابة المسرحيّة. نزوره بعد أربعين سنة على «مجدلون»: ما الذي أزعج السلطات وقتها إلى هذا الحدّ؟ يستعيد الكاتب والمناضل نهاية المسرحيّة: وقف أحد الممثلين كاسراً لعبة الإيهام، معلناً نهاية المسرحية، شاتماً الجمهور. قذف الراديو في الهواء، وصرخ بالمشاهدين: «ادعوا العالم للثورة». كانت مسرحية عن الفدائيين الفلسطينيين، وعن ضرورة تغيير النظام السياسي في لبنان...
بعد عرض الـ«هورس شو»، استدعت الأجهزة الأمنية حاماتي، لكنّ الحظّ شاء له تلك الليلة أن يقع بين يدي محقّق لطيف كان أحد تلامذة والده... فشرب فنجان قهوة في «مخفر حبيش» وعاد إلى بيته.
الكتابة المسرحية لم تكن شغل هنري حاماتي. عمل الرجل في التدريس والصحافة، لكنّ «المحترف» عرض عليه أن يرافق التحضيرات لـ«مجدلون». وهكذا كان. شارك في النقاشات، وكتب الحوارات... يبتسم الرجل السبيعني ابتسامة ساحرة، يرفع حاجبيه، ويبدو كأنّه تذكّر أمراً مهماً: «لقد تابع نزار قباني إحدى البروفات، وأوحت إليه الورشة قصيدة بعنوان «مجدلون»».
بعد عام على تقديمها أعاد حاماتي كتابة المسرحية مع بعض التعديلات. يخبرك كيف تحدثت صحف العالم عن تلك التجربة، مذكراً بأنّه استشرف في نصّها ما سيعيشه لبنان والعالم العربي في السنوات القليلة اللاحقة... فها هي «بليدة» الجنوبية تشهد اعتداءات إسرائيلية، و«ها هي الحكومة تسقط، وتعيش البلاد فراغاً استغرق عشرة أشهر».
في عام 1974، شرع حاماتي في كتابة مسرحية «مردو البابلي» لتقدمها الراقصة جورجيت جبارة، ثم اندلعت الحرب الأهلية قبل أن يرى العمل النور. لاحقاً، كتب سيناريو فيلم عن «جبران وماري هاسكال»، لكنّ الشركة الأجنبية التي اشترته لم تقدمه... السينما أيضاً؟ نعم... يخبرنا أنَّه تعلّمها على يد صديقه المخرج جورج نصر.
منذ بداية الحديث، تشعر بأن الرجل الذي يجاريك في استعادة تلك الذكريات، قد لا يحتلّ الإبداع، عامة، موقع الصدارة في قائمة اهتماماته. يتلقّفك المثقّف الهادئ بإصغائه وتفاعله وكرمه... لكنّك سرعان ما تدرك أن انشغاله وعشقه وتفكيره كلّه يصبّ عند نقطة واحدة: انتماؤه إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي. يقول «أنا متعاقد مع أنطون سعادة على قضية وعقيدة ونظام، وتعاقدي كيانيّ وشامل، حييته وأحياه في كلّ لحظة من حياتي».
حين تدخل منزله في الحمرا، ستكون صورة «الزعيم» أوّل ما تلمحه... وإذا التفت قليلاً فستقع على صورة حسن نصر الله. مهما كانت وجهة الحديث، يعيدك هذا المناضل دائماً إلى عقيدته. يتوقف مطولاً عند الجزء الثاني من سلسلة «أفكار» (دراسة كتبت في باريس عام 1978، وصدرت أجزاؤها الخمسة تباعاً): «فيه كتبت عن فلسفة الاجتماع السياسي، وضمنته شرحاً وافياً لفلسفة سعادة المدرحية (المادية ــــ الروحية)». يعتبر حاماتي قراءاته ــــ ماركسية كانت أو هيغلية أو غيرها ــــ ضرورية «لفهم ما يتميّز به سعادة عن الآخرين». عقده هذا مع سعادة يعود إلى عام 1951، حين انتسب ابن السابعة عشرة إلى «الحزب السوري القومي الاجتماعي». كان بأيّة حال يعيش في كنف أسرة اعتنقت تلك العقيدة، بدءاً من جدته... ووصولاً إلى خاله جورج الذي كان «أوّل حرس للزعيم». تزوّج في العشرين، وتوقف عن متابعة الدراسة. لم يلتحق بجامعة، بل بنى ثقافته بنفسه، من خلال قراءاته. صار مذيعاً ناشطاً في الحزب. «كنت أعتبر أن مهمتي الرئيسة إيصال الفكر السوري القومي الاجتماعي للمواطنين»، يخبرنا. في أوائل الستينيات تولّى إدارة تحرير مجلة «الجمهور»، ثم مجلة «الجديد» (1966)، وبعدها مجلة «صدى لبنان» (1972)... درّس الرياضيات فترةً، لكن مجلس أمناء «كلية البشارة» اجتمع عام 1967 وقرر الاستغناء عن خدماته، بسبب «تغيبه الدائم عن المدرسة»... أما سبب ذلك التغيّب، فهو أن الأستاذ حاماتي كان يمضي وقته في السجن! دخل إليه ستّ مرات منذ 1962. بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة لـ«الحزب السوري القومي الاجتماعي»... في الليلة الأخيرة من عام 1961، أسس هنري حاماتي مجلة «فكر». في تلك الفترة أيضاً، عُيّن مفوضاً للحزب في لبنان «لمواجهة العسف الهمجي الذي كانت تقوم به حكومة فؤاد شهاب ضد القوميين، وإعادة تنظيم الحزب وتأهيله للمواجهة، وتأمين حضوره المعنوي والفكري الدائم في المجتمع».
في 1976، ثانية سنوات الحرب الأهليّة، اختار حاماتي طريق المنفى: «لم يكن أحد يرغب بوجودي هنا»، يقول. حطّ رحاله في باريس، متابعاً نشاطه الفكري، فكتب الرسائل والدراسات، ومنها رسالة أرسلها عبر السفارة السورية إلى الرئيس حافظ الأسد، يفنّد فيها أسباب رفض إسرائيل المطلق للسلام. لم يعد إلى لبنان إلا عام 1996، وهو منشغلٌ حالياً في كتابة «دراسة في الفكر الديني» يتناول فيها «الاختراق اليهودي للوجدان العام عندنا». يصعب فهم هذه المقاربة قبل قراءة الكتاب، لكنّ كلمة «يهودي» في هذا السياق، لها في الأذن وقع مقلق...
قبل أن يتوقف «الرفيق هنري» عن الكلام المباح، يعترف لنا بحنينه إلى إنطاكيا. في هذه المدينة التركيّة ولد، حين كان والده يدرّس الرياضيات في كلّيتها. غادرها طفلاً في الخامسة، لكنّه اليوم في الخامسة والسبعين، لا يزال يتذكّر حاراتها والكنيسة، ومدرسة أخيه، وساحتها...



5 تواريخ

1934
الولادة في إنطاكيا حيث كان والده يمارس مهنة التدريس

1951
انتمى إلى «الحزب السوري القومي الاجتماعي»

1963
عيِّن مفوضاً عاماً للحزب في لبنان، بعد سنتين على المحاولة الانقلابيّة الفاشلة التي قام بها «القوميّون»

1969
كتب «مجدلون» مع أعضاء «محترف بيروت للمسرح»

2009
منكبّ حاليّاً على وضع «دراسة في الفكر الديني»