ياسين تملالي *نستسمح الكاتب في التعليق على ما يبدو لنا ابتساراً مخلاً. ليس صحيحاً أن «الشيعة جميعاً» يؤمنون بأن «من يتولى أمر المسلمين وحكمهم، لا بد أن يكون بنصّ إلهي». فالزيدية، مثلاً، لا يجعلون الاصطفاء الرباني شرطاً من شروط الإمامة. كذلك، نظرية الإمامة الشيعية لم تتكون في حقبة واحدة محددة، وتكوُّنُها لم يسبق زمنياً انشقاق الشيعة إلى فرق كثيرة، بل إن اختلاف الآراء بشأن الإمامة كان أحد أسباب هذا الانشقاق إلى زيدية يؤمنون بأنها حق لكل من يسعى إليها من نسل علي بن أبي طالب، وإسماعيلية يقولون بأنها صنو النبوة ووريثتها. ثم ما المقصود بـ«اشتهار نظرية الإمامة الاثني عشرية»؟ المعروف أن أول نظرية إمامة «اشتهرت» كانت النظرية الإسماعيلية، وذلك بتأسيس الدولة الفاطمية (909ـــــ1071)، وهي أول دولة علوية حقيقية في التاريخ.

لا فرق بين «هيئة علماء» الإخوان و«مجلس صيانة الدستور» في إيران وكلاهما غير منتخب
وينتقل الدكتور عصام العريان بالحديث إلى «ولاية الفقيه» فيقول: «كانت النقلة الكبيرة التي أحدثها الإمام الخميني هي نظرية جديدة للإمامة أو «الحكومة الإسلامية»، كما سمّاها في كتابه الأشهر الذي حمل نفس العنوان. خلاصة ما وصل إليه الخميني أن الشيعة ليسوا في حاجة إلى انتظار عودة الإمام الغائب ليقودهم في دولة إسلامية، بل يمكن أن يتولّى أحد المراجع الكبار الولاية السياسية مع الولاية الدينية، فيتولى حكم المسلمين ويطبّق فيهم حكم الإسلام».
وبغض النظر عن أن الخميني، في الكتاب المذكور، عرض نظرية ولاية الفقيه من جانب فقهي بحت، وأنه لم يتكلم عن «الشيعة» وحدهم، كما يقول الكاتب، بل عن مجموع المسلمين، نتساءل: هل هو أول من طرح مشكلة الولاية السياسية لرجل الدين في غيبة المهدي؟ لا، بالتأكيد (وإن كان حلّه لها أكثر راديكالية من الحلول التي اقترحت من قبل). فقد شغل هذا الأمر فقهاء الشيعة الإيرانيين منذ أن فرض الصفويون المذهب الاثنا عشري مذهباً رسمياً لإيران في مطلع القرن السادس عشر.
تحت حكم هذه السلالة التي أسست ثاني أكبر دولة شيعية في التاريخ بعد الدولة الفاطمية، تساءل هؤلاء الفقهاء: هل ترجع السلطة الدنيوية إلى الفقيه القادر على تأويل أوامر الإمام المغيب أم إلى «سلالة العلويين» (كان الصفويون يزعمون أنهم من نسل علي). وكان منهم من أجاب بأن الفقيه هو ممثل المهدي على الأرض، وأن السلطة السياسية، بموجب ذلك، مخوّلة له وإن أناب عنه الملك في ممارستها. ويذكر في هذا السياق أن أحد أوائل الملوك الصفويين، تهماسب (1524ـــــ1576)، كان يعدّ نفسه رسمياً مجرد منفذ لإرادة «نائب الإمام»، فقيه المملكة الأول (وهو ما يمكن مقارنته، شكلياً على الأقل، بإلحاح أحمدي نجاد على أنه خادم المرشد المطيع).
صحيح إذاً أن الخميني أحدث «نقلة» في الفكر الشيعي بتوحيده مقامَي عالم الدين والقائد السياسي، لكن هذه النقلة لم تأت من عدم، فالنقاش عن واجبات الفقيه السياسية عريق لدى الشيعة، بالنظر إلى الاضطهاد الذي قاسوه. وكما رأينا، فإن من علمائهم من عدّ الفقيه صراحة وليّ أمور المسلمين الدنيوية، وإن أناب عنه غيره في تسييرها، وهو ما يمكن أن يعدّ نواة نظرية الحكم الخمينية التي تميّز ولاية العالم «الاعتبارية» عن «الولاية التكوينية» الخاصة بالإمام المعصوم.
ويتحدث العريان عن واجب اعتماد كل شيعي أحد الفقهاء الكبار مرجعاً للتقليد. لا شك في أن تقليد المراجع مهم في إيران وغيرها، لكنه لا يبدو في صميم الفكر الشيعي، بدليل أنه خاص بالاثني عشرية دون سواهم. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، فإن تقليد عالم الدين كثيراً ما انتقد في إيران لأسباب دينية وسياسية، لا فقط من طرف مفكر معاصر كعلي شريعتي (كتاب «التشيع العلوي والتشيع الصفوي») ولكن خلال حكم الصفويين ذاته، من طرف من سمّوا «الإخباريين»، وهم فقهاء ردّوا على أقرانهم زعمهم أنهم «قدوة للناس»، وذكّروهم بأنهم ليسوا كالرسول والأئمة الاثني عشر معصومين.
ويضيف كاتب المقال: «وعند الغيبة الكبرى بقيت هذه الولاية الدينية يتوارثها العلماء الذين تم تأسيس نظام محكم لترَقّيهم». وهنا نتساءل: ما هو «نظام الترقية المحكم» هذا؟ المعروف أنه لا نظام لترقية طلاب العلم الديني لدى الشيعة سوى اعتراف معلّميهم بسعة علمهم، من جهة، وتزايد إقبال الناس عليهم (أي «التصويت الشعبي» عليهم إن صح القول)، من جهة أخرى.
لم يثبت في تاريخ التشيّع وجود «نظام» توزع بموجبه الألقاب الدينية كـ«حجة الإسلام» و«آية الله» على طالبيها، ربما لسبب بسيط هو رفض الملالي أن تتولى هيئة نظامية مهمات ترقيتهم، لما يمنحها ذلك من سيطرة ووسائل ضغط عليهم.
النقطة الأخيرة التي نود مناقشة الدكتور عصام العريان فيها هي: إذا غضضنا النظر عن ظواهر الأمور، هل من فارق جوهري بين نظرية «ولاية الفقيه» ونظرية الحكم لدى الحركات الإسلامية السنيّة؟ قد يقال إن هذه النظرية الأخيرة غير مكتملة، بدليل أنها لا تزال إلى اليوم مثار جدل كبير. هذا صحيح، لكن ما يوحّد هذه الحركات، على اختلافاتها، أليس فكرة بسيطة: استيحاء التشريعات من المصادر الدينية أساساً لا من التفكير البشري؟ بعبارة أخرى، فإن «الحاكمية الإلهية» بمعناها العام (ما يصلح للبشر في كل زمان ومكان موجود في الإسلام) هي أساس الحكم لديها، وهو ما تدل عليه عبارات مأثورة يجتمع عليها الإسلاميون، المعتدلون منهم وغير المعتدلين، من قبيل «ما لم يتعارض ذلك مع الشريعة» و«في حدود ما يسمح به الشرع».
الفارق الوحيد بين نظرية الحكم الخمينية ونظرية الحكم لدى الإسلاميين السنّة هو أن الأولى «تشخصن» الولاية السياسية وتحصرها في فرد واحد هو «الفقيه العادل المتقي العالم بأمور زمانه» (الدستور الإيراني، المادة الخامسة)، مضفية عليه شبه عصمة اختص بها في الأصل الأنبياء والأئمة، فيما «توزع» النظرية الثانية ذات الولاية بين العلماء (والحقيقة أن هذا الفرق ليس جوهرياً بدليل أن الدستور الإيراني ترك الباب مفتوحاً لخلافة المرشد في حالة وفاته أو عزله من طرف «مجلس فقهاء»، وذلك في انتظار أن ينتخب مرشد آخر مكانه).
إذاً، خلافاً لما يلمح إليه الدكتور العريان، لا يمكن أن نجزم بأن نظرية الحكم الإسلامي مبنية على مبدأ «ولاية الأمة». لا يمكن أن نجزم بذلك، أولاً لأن من التيارات الإسلامية من يقول بالحاكمية الإلهية المطلقة (وهي أشد رفضاً لفكرة «حكم الشعب» من المتعصّبين لـ«ولاية الفقيه»، إذ ترى أنها شرك ما بعده شرك)، وثانياً لأن تيارات أكثر اعتدالاً (كالإخوان المسلمين)، بدعوتها إلى جعل الشريعة مصدر التشريع الرئيسي، تدعو في الواقع إلى إحكام رقابة رجال الدين على اختيارات الشعب.
إذا أصبح الإسلام يوماً مصدر التشريع الرئيسي، ألن يحتاج ذلك إلى فقهاء يتولّون تأويل أحكامه واستنباط القوانين منه؟ بعبارة أخرى، ألن يولّى الفقهاء قيادة الأمة الفعلية كما يتولّى قيادتها في إيران المرشد الأعلى و«مجلس صيانة الدستور» و«مجلس الخبراء»؟ ألن يتدخلوا، بحجة التحقق من تطابق القوانين مع الدين، في كل المجالات الدنيوية من تعليم وصحة وإعلام وغيرها؟ ألن يطبقوا قبضتهم على المجتمع بحجة أن «الإسلام دنيا ودين»؟ الجواب: نعم. حتى مشروع برنامج الإخوان المسلمين المصريين (المنشور في 2007) يقرّ بذلك: «يجب على السلطة التشريعية أن تطلب رأي هيئة من كبار علماء الدين في الأمة، على أن تكون منتخبة أيضاً انتخاباً حراً ومباشراً من علماء الدين، ومستقلة استقلالا تاماً وحقيقياً عن السلطة التنفيذية في كل شؤونها الفنية والمالية والإدارية (...)، ويسري ذلك على رئيس الجمهورية عند إصداره قرارات بقوة القانون في غيبة السلطة التشريعية».
ما الفرق بين «هيئة علماء» كهذه و«مجلس صيانة الدستور» في إيران الذي يرفض ما صوّت عليه البرلمان، إذا لم يتوافق، في نظره، مع الشريعة؟ لا فرق، في رأينا. أضف إلى ذلك أن كلتا الهيئتين غير منتخبتين، فتلك التي يقترحها الإخوان يختارها علماء لا يصوّت عليهم غير أقرانهم، فيما يعيّن نصف أعضاء «مجلس صيانة الدستور» المرشد الأعلى ويعيّن بقيَّتهم البرلمان على أساس مقترح من رئيس السلطة القضائية (المعيّن بدوره من طرف المرشد).
وقد يُرَدّ على هذا الكلام بأن الإخوان المصريين يؤمنون بفصل السلطات (التشريعية والتنفيذية والقضائية) وبضرورة انتخاب كل مسؤولي الدولة السياسيين، وبطابع مؤسسات الدولة المدني، وأن هذه الأفكار سدّ منيع يقي «ولاية الأمة» من «ولاية الفقهاء». لكن كل هذه المبادئ موجودة في الدستور الإيراني. فالفصل بين السلطات فيه مضمون، والرئيس منتخب والبرلمان منتخب و«مجلس الخبراء» منتخب والمرشد، على اتساع سلطاته، منتخب هو الآخر من طرف «مجلس الخبراء» الذي له الحق في عزله، فضلاً عن أنه يتساوى مع أي مواطن آخر أمام القانون، كذلك فإن الدولة الإيرانية، رسمياً، مدنية، واستئثار رجال الدين فيها بالمناصب الحساسة لم يكن ثمرة مزايا منحهم إياها القانون، ولكن نتيجة دورهم في الثورة الإسلامية الذي تعاظم بعد القضاء على النخب الإيرانية العلمانية نفياً وإعداماً.
هل تضمن هذه المبادئ الدستورية ديموقراطيةَ الجمهورية الإسلامية؟ لا، لأن أساس الحكم فيها «ولاية الفقيه»، أي حق المرشد الأعلى (والفقهاء أعضاء «مجلس صيانة الدستور») في إلغاء قرارات منتخبي الشعب. بالصورة نفسها، لن يضمن فصل السلطات وانتخاب المسؤولين السياسيين والاعتراف بطابع المؤسسات المدني عدم تحول «الدولة الإسلامية السنّية» إلى دولة ثيوقراطية. فتطبيق ما يعدّ «أحكاماً شرعية قطعية» وتكليف الفقهاء بإعادة النظر في ما يقرره البرلمان، سيكونان فاتحة انتفاء «ولاية الأمة» التي يدعو إليها الدكتور عصام العريان، وبداية تشابه «جمهورية الإخوان» مع جمهورية إيران.
* صحافي جزائري