عمر نشابةلم يُحَل مئات زعماء الأحزاب والطوائف والملل إلى القضاء رغم الاشتباه بإشرافهم ومشاركتهم في قصف بيوت ومنشآت مدنية عشوائياً وخطف الآلاف وقتلهم وتعذيبهم وإخفائهم والتنكيل بجثثهم. وبقوا أبرياء، إذ لم تثبت إدانتهم أمام المحكمة العادلة التي تضمن لهم حق الدفاع المناسب.
كذلك لم يُحَل إميل إده والوزراء الذين التحقوا به بأمر من المفوض السامي الفرنسي عام 1943 إلى القضاء رغم الاشتباه بتعاملهم مع دولة أجنبية على حساب الجمهورية اللبنانية المستقلة.
ومنذ الاستقلال صدرت عن الدولة اللبنانية سبعة قوانين عفو بمعدل قانون عفو كلّ تسع سنوات تقريباً. لا يفترض اعتبار المعفوّ عنه، المحكوم بارتكاب جريمة بريئاً. غير أن العدد الأكبر من المعفوّ عنهم لم يحالوا أصلاً إلى المحاكم، أو لم تصدر أحكام قضائية بحقّهم، وبالتالي فهم أبرياء.
لم تكد تمرّ ستّ سنوات على «الاستقلال» حتى انطلقت سلسلة قوانين العفو العام. فالإفلات من العقاب جزء من التقاليد المتخلّفة في الجمهورية اللبنانية. قانون 19 تشرين الأول 1949 يمنح عفواً عاماً عن الجرائم المقترفة قبل 21 أيلول 1949. وفي 23 شباط 1954 منح عفو عام عن الجرائم المرتكبة قبل إنشاء المحاكم العسكرية اللبنانية. أما قانون 24 كانون الأول 1958 فيمنح العفو عن الجرائم بحق أمن الدولة قبل 15 تشرين الأول 1958. ولم تكد تمرّ 11 سنة حتى صدر قانون يُعفي مرتكبي الجرائم قبل الأول من كانون الأول 1967. وتوّجت قوانين العفو العام بالقانون الرقم 84 الذي صدر بعد اتفاق الطائف في 26 آب 1991 والذي يعفو عن الجرائم المرتكبة قبل 28 آذار 1991. كذلك صدرت ستة قوانين عفو عام عن جرائم المطبوعات وقانون عفو عام عن جرائم المخدرات المرتكبة قبل تاريخ 31 كانون الأول 1995.
تمكن عدد كبير من المعفوّ عنهم بجرائم قتل وخطف واعتداء من الوصول إلى أعلى المناصب في الدولة، فمنهم من انتخب لعدة دورات ودخل الندوة البرلمانية، ومنهم من تولى حقائب وزارية.
بينما «تزرك» الدولة آلاف البشر في سجون مكتظة لا تراعي أدنى المعايير الدولية الإنسانية، ويُعَدّ هؤلاء أكثر من يلحق الضرر بالمجتمع والمؤسسات والمصالح العامة والخاصة، وبالتالي لا تولي الحكومات المتعاقبة أي اهتمام جدي في تحسين أوضاعهم، إلا أنّ معظمهم أبرياء. نعم أبرياء حتى يثبت ارتكابهم جرائم ينص عليها القانون أمام محكمة عادلة تضمن لهم حقّ الدفاع المناسب. تماماً كما هي حال عدد كبير من الوزراء والنواب والزعماء السياسيين، لكن مع فرق واحد: هم وراء القضبان بينما هؤلاء في القصور والوزارات والفيلّات.