أحمد محسنلو كان أمامي الآن، لكنت سألته، لماذا تركت «النرد» وحيداً؟ الأرقام ليست خرساء. سنة كاملة، وقت طويل جداً. اذهب الآن إلى عين الحلوة، ترَ الأطفال هناك، يركضون في غابات دمك. طيب بلاش عين الحلوة، اذهب إلى اللد، توفيق زياد باقٍ هناك، على وعده. لا أدري كم تبعد المسافة بين رفاة الماغوط ورفاتك. المهم في الأمر أن أصواتكما متلاصقة هنا في بيروت، تقض الجدران. أنت الرقم الخمسون ألفاً ـــــ وربما أكثر ـــــ في المجزرة الصامتة. تغادرون جميعاً من دون أن يأخذ أحدكم في الاعتبار، مأساة الجفاف. نحن جيل نما في أحضان ريتا والبندقية، وعاش الحصار. اعتدنا ملاعبة عصافير الجليل. وليس سهلاً أبداً أن نعتاش مع حضرة غيابك. أكره العاطفة المفرطة، وخصوصاً في الحديث عن شاعر، لكنّ الموت كلاسيكي. لا يترك خيارات كثيرة. وسنة كاملة، وقت طويل على الغياب.
الحياة طاولة قمار كبيرة. إنها بحثٌ عن أقل الخسائر الممكنة
عندما ذهب إلى حيفا، ذهبت معه، وكنت متألماً من أولئك الذين لم يدخلوا إلى قلبه في تلك المحنة. كان يشعر بأن دقات قلبه بدأت تتراجع، ولا بد لرجلٍ مثله، من عودة. من مخيم إلى مخيم، ومن عاصمة إلى أخرى، وما كان للشتات أن ينتهي. متى يوقف العرب مزايداتهم، رحمةً بالشعر، وبالنكبات المتتالية. نعم سمحت الحواجز الإسرائيلية بذلك. ومن قال إن الفلسطينيين يتنفسون بلا إذن؟ كل شيء هناك، حتى الهواء، يجري بإذن من الإسرائيليين. يجب أن يكون العار واضحاً، والشعر هو البريء الوحيد في جرائم السكوت تلك. دُفن في رام الله، بعيداً عن كل الذكريات الحقيقية السابقة. مات تقريباً، لولا بعض المقالات. أقول تقريباً، لأنه ما زال قريباً كزهر اللوز. لم يقلّدوه وساماً، ولم يحصل على جائزة نوبل. نوبل الذي صنع الديناميت، ولن تكون جائزته تكفيراً عن الذنب التاريخي العظيم. بلاها نوبل، وبلا كل الأوسمة. انحاز العالم ضد شعب كامل، وكان طبيعياً أن يصبح دوريش مجرد صورة، مجرد ظل عال، لآلام الملايين، ينعكس في أمسيات الأدب الباقية، وفي حجارة الفتية البسطاء. صورة محمود دوريش في معرض الكتاب، في مدينته المفضلة، كافية للابتسام. كأنه طفل غزاوي يعج بالأمل، ويتأمل الشاطئ البعيد. أخاله هو نفسه يقول في سرّه، سنة كاملة وقت طويل على الغياب. يتوب إلى القدس، ويحجّ إلى أرصفتها، بحيث ينجو من فتاوى التكفير المستجدة، ولا يذهب إلى جحيمٍ جديد. هكذا يعيش الشعراء، وهكذا يموتون. لكني لا زلت أنتظر كتاباً آخر، وتوقيعاً آخر، ودمىً يافاوية على مذبح القضية. وحتى ذلك الحين، سأستمر باللعب بقصائده كطفلٍ يسبح في القذائف الفوسفورية القاتلة، ويضحك. العودة مسألة وقت فقط.
العب ما شئت يا محمود: ستموت. الحياة أيضاً، طاولة قمار كبيرة. فلنقل إنها بحثٌ عن أقل الخسائر الممكنة. ربحنا بعض الوقت، والقصائد التي تصنع النشوة. طمعنا بالمزيد من الألم، فالجشع مادة طيبة، وفيها من الحب أحياناً. أنت الذي أطعمت الفدائيين شعراً، وصنعت من الحرف خمراً. نراك الآن على مقربة من «البيال»، تمشي حاملاً أوراقك، يد الهواء تلملم فلسطينك من العينين، ويدك الكبيرة، تنزع النظارة جانباً. لطالما خلت أن يد محمود درويش كبيرة جداً. كنت أتصورها بحجم الجدار العازل. كنت أظنه طويل القامة أيضاً، كامتداد المسافة البحرية بين بيروت وحيفا. وبالفعل، ترك قلبه في قصائده، كي تخفق عيوننا إذا قرأنا. ترك ألمه القديم في الساحات المتاحة. لكن، ورغم كل شيء، سنة كاملة وقت طويل على الغياب. ينبغي أن يخبره أحد من رفاقه الأموات أن الصلبان ما عادت مخيفة، وأن الموت لم يعد موحشاً، وقد جنينا صليباً جديداً. صليب ينضح فوق قبر درويش، الذي حوّلوه إلى مزبلة. كأنه كان يعرف أن طريق الزهر شاقٌ من الكرمل إلى رام الله، فأوصى بالفوضى. كأنه كان يعرف أنهم سيلوّثون وصاياه.