حسين آغا وروبرت مالي*شهد حلّ الدولتَين تحوّلَين في المواقف. ففي الأسابيع الأخيرة، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، أنهما يقبلان الآن ما رفضاه طويلاً. ويمثّل هذا التوافق الذي يحظى بما يشبه الإجماع الإشارة الأوثق حتى الآن إلى أنّ حل الدولتين أصبح خاوي المعنى، أضحى شعاراً طلّق القضايا المثيرة للنزاع التي يفترض به أن يحلّها. فالجميع يستطيع أن يوافق لأن قول نعم لم يعد يعني الكثير فيما أمسى الرفض مكلفاً للغاية. يدلّ القبول بحل الدولتين على استمرار النزاع الإسرائيلي الفلسطيني بوسائل أخرى.
تحت وطأة الضغط الأميركي، وافق السيد نتنياهو على مبدأ دولة فلسطينية، ولكنه قدّم عنها توصيفاً جرّدها فيه من السيادة المهمة. وأعاد موقفه إلى الأذهان جوهرياً مواقف القادة الإسرائيليين الذين سبقوه، مع تسجيل فوارق بسيطة. فقد قال إن الدولة يجب أن تكون منزوعة السلاح وألّا تملك سيطرة على الحدود أو المجال الجوي، وإن القدس ستبقى تحت السيادة الإسرائيلية، وإنه لا يُسمح للاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى إسرائيل. شدّد على التحذيرات بدلاً من إبراز التنازل.
كما كان السيد نتنياهو مولعاً بالقول، يمكنك أن تسمي تلك دولة إن شئت، ولكن من تخدع؟

اتخذت المعركة الشكل الأكثر تقلصاً الذي تجسّد بعملية شد حبال حول أراضي ما بعد 1967
أما بالنسبة إلى حماس، فكثيراً ما كان ولا يزال الاعتراف بدولة إسرائيل من المحرمات. لكن منذ أمد غير بعيد، لمّحت الحركة إلى أنها قد تقرّ بوجود إسرائيل على أنه أمر واقع، وتقبل بإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة. وتحوّل هذا الموقف من تلميح إلى تأكيد. وأثار الخطاب الذي ألقاه الرئيس أوباما في حزيران/يونيو في القاهرة مزيجاً من الترقب والتخوف بين قادة حماس. فقد انتقد الرئيس الأميركي الحركة ولكنه لم يقرن ذكره لحماس بلفظة إرهاب، وبدت تلاوته الشروط المسبقة للشراكة أشبه بأزيز باب يُفتح أكثر من دويّ باب يُغلق، والاعتراف بأن الإسلاميين يتمتعون بدعم بعض الفلسطينيين كان أمراً يُضنّ به ومثّل موقفاً كريماً وفق المعايير الأميركية. وكان كل ذلك يبشّر بالخير وينذر بالشر أيضاًً، فأثار التفكّر ضمن حركة حماس في كيفية الإفلات من القيود الدولية من دون خيانة المعتقدات الجوهرية.
أتت نتيجة هذا التداول رسالة حماس القائلة إنها سوف تنضم إلى الخطة المقبولة دولياً ـــــ دولة فلسطينية ضمن حدود 1967، وهي السنة التي احتلت فيها إسرائيل الضفة الغربية وغزة. حماس أيضاً أرفقت تنازلها بفيض من التحذيرات، مطالبة بانسحاب إسرائيلي تام وسيادة فلسطينية كاملة واحترام حقوق اللاجئين. وفي ذلك، ضئيلةً أتت الفوارق بين موقفها والمواقف الفلسطينية
التقليدية.
تعكس المبارزات الكلامية أمراً منفصلاً عن قيام دولة فلسطينية وأعمق منه بكثير. فالسيد نتنياهو يؤكد أنه ينبغي الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية ـــــ ويذكّر بأن النزاع بدأ قبل احتلال الضفة الغربية أو غزة. والفلسطينيون بدورهم يرفضون الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، ويتمسكون بحقوق اللاجئين ويعلنون أنه، إذا أرادت إسرائيل أن تضع حداً حقيقياً للنزاع، فعليها أن تقدّم في المقابل أكثر من مجرد القبول بإقامة دولة.
للمرة الأولى منذ أمد بعيد، يعيد هذا التبادل الكلامي النزاع إلى جذوره التاريخية، ويقطّر جوهره السياسي ويلامس صميمه العاطفي الخام. فالطرفان يتفقان ضمنياً على أنه يمكن أن يُحلّ فقط من خلال العودة إلى ما قبل الاحتلال، إلى قضايا برزت إلى الوجود عام 1948 ـــــ الرفض العربي للدولة اليهودية الحديثة الولادة وتجريد اللاجئين الفلسطينيين من ممتلكاتهم وتشريدهم.
يحظى كلّ من الموقفَين بدعم واسع ضمن مجتمعه الخاص. فقلة من الإسرائيليين تعارض التشديد على الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، إذ إنه ينضوي على توقهم العميق المتجذر في تاريخ الشعب اليهودي والمتمثل بوجود في أرض أسلافهم، وجود يحظى بقبول تام ـــــ لوضع حدّ للشكوك العربية في مشروعية إسرائيل، ولشبح عودة اللاجئين الفلسطينيين ولأي شعور تحرري وحدوي بين المواطنين الإسرائيليين العرب.
قلة أقلُّ منها بعدُ من الفلسطينيين تختلف على الرفض القاطع لذلك المطلب، كما أظهر مؤتمر فتح الأخير في بيت لحم. فبنظرهم، إن القبول بإسرائيل دولةً يهودية سوف يشرّع المشروع الصهيوني الذي سبّب مأساتهم، وسيفرغ الكفاح الوطني الفلسطيني من معناه في أفضل الأحوال، ويحيله عملاً إجرامياً في أسوئها. ينبثق موقفهم الصارم المتعلق بمبدأ حقهم في العودة من الاعتقاد أن حرب عام 1948 أدّت إلى تشريد غير عادل، وأنه لا يجوز أبداً حرمان اللاجئين حقهم الطبيعي في العودة إلى ديارهم، سواء اختاروا العودة أو لا، أو سُمح لهم بها أو لا. وقد كانت الحركة الوطنية الفلسطينية الحديثة، التي تجسّدها منظمة التحرير الفلسطينية، حركة لاجئين بالدرجة الأولى ـــــ قادها لاجئون وركّزت على وضعهم المأساوي.
يسهل على المرء أن ينفر من هذه المواقف. فهي تسير بالاتجاه المعاكس لجوهر عملية سلام تفترض أساساً أن إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة سوف يضعان حداً لهذه المسألة. بيد أن استعادة جذور النزاع الإسرائيلي ــــ الفلسطيني ليست ابتكار خط معركة جديد، بل إعادة إحياء خط قديم لم يختفِ فقط لأن أفرقاء أقوياء تصرفوا لبعض الوقت كما لو أنه انتفى من الوجود.
فعلى مرّ العقدَين المنصرمَين، أُخفيت جذور المشكلة، وكُبتت تدريجياً مع اتخاذ المعركة الشكل الأكثر تقلصاً الذي تجسّد بعملية شد حبال حول أراضي ما بعد 1967 شملت الضفة الغربية وقطاع غزة. ووافق المسؤولون في الفريقين ضمنياً، كلّ لأسبابه الخاصة، ومعهم المجتمع الدولي، على معالجة التجسيد الأحدث والأكثر وضوحاً للمعركة. فرأى الفلسطينيون فرصة لكي يمارسوا أخيراً السلطة على جزء من ميراثهم؛ وأراد الإسرائيليون أن يتحرروا من أعباء الاحتلال؛ ورأت الأطراف الأجنبية أنه الأمر الأسهل والأنسب. وكان الأمل بأن معالجة وضع الضفة الغربية وغزة سوف تعفي، بشكل من الأشكال، من الحاجة إلى معالجة المسائل التي سبقت الاحتلال وقد تدوم بعده.
إن فشل هذا العدد الكبير من المحاولات في حل النزاع لأمر يدعو إلى التيقظ. فكأنما الطرفان، حينما يتقدمان ببطء نحو تسوية بارعة تتمحور حول ما أضحى واقعاً في الزمن الحاضر، يُرجَعان بلا هوادة إلى أشباح الماضي. يصعب اليوم تخيّل حل لا يستتبع إقامة دولتين، ولكن إقامة دولتين قد لا تمثّل حلاً حقيقياً إذا جرى تجاهل جذور هذا النزاع. فالنتيجة النهائية المتعلقة بالأرض ستُحصر بطريقة شبه مؤكدة ضمن حدود عام 1967. ولكي تكون قابلة للاستمرار، ينبغي أن تأتي وثيقة الارتباط بالقضايا المتروكة منذ سنة 1948. فتكمن الخطوة الأولى بالاعتراف بأنه، في قلوب الإسرائيليين والفلسطينيين وفي عقولهم، لا تتعلق المسألة الأساسية بتفاصيل حلّ يبدو عملياً في ظاهره، بل هي قضية صراع وجداني بين نظرتَين إلى الحياة.
على امتداد سنوات، تركّز كل الاهتمام فعلياً على مسألة الدولة الفلسطينية المستقبلية، وعلى حدودها وسلطاتها. وفيما يكون الإسرائيليون واضحين تماماً في كلامهم على حتمية قيام دولة يهودية، وفيما يبدي الفلسطينيون إصراراً لدى تناولهم حقوق اللاجئين، لا يكمن جوهر المسألة بالضرورة في كيفية تحديد دولة لفلسطين. بل هو، كما كان دوماً بشكل من الأشكال، كيفية تحديد دولة إسرائيل.

* حسين آغا هو، مع أحمد س. الخالدي، مؤلف كتاب «إطار عام لعقيدة أمن قومي فلسطيني». أما روبرت مالي، مدير برنامج الشرق الأوسط في المجموعة الدولية لمعالجة الأزمات، فقد كان مساعداً خاصاً للرئيس كلينتون في ما يخص الشؤون العربية الإسرائيلية من 1998 إلى 2001.
(عن «نيويورك تايمز» / ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية)