عصام العريان*أثار ما نشرته جريدة «الشروق»، في الأيام الماضية، جدلاً شديداً بشأن حديث الصفقات التي يعقدها النظام المصري مع قوى المعارضة، وخاصة الإخوان المسلمين. النظام المصري يتحرك بأجنحة متعددة، أهمها وأقواها الآن الجناح الأمني، وأضعفها وأقلّها أهمية الآن الجناح الحزبي، باستثناء «لجنة السياسات» التي توظف الأمن حالياً لمصالحها الخاصة.
من حيث المبدأ، فإن النظام المصري منذ ثورة يوليو يرى أن مجرد الحوار مع المعارضة ـــــ إن وجدت ـــــ ضعف شديد لا يجوز له أن يهبط إليه، لذلك شطب فكرة المعارضة من الوجود الفيزيائي (الطبيعي) لمدة 25 سنة عصيبة، عاشتها البلاد دون الإحساس بوجود مجرد رأي معارض، ولو من داخل النظام نفسه. وكان الرئيس عبد الناصر قد ألغى وجود جميع أعضاء مجلس الثورة الذين رافقوه في مرحلة الانقلاب ثم البناء الأولى، وكذلك شطب الرئيس السادات معظم القيادات التي أعدّت البلاد خلال حرب الاستنزاف ثم الإعداد لحرب أكتوبر، بسبب الخلاف على قضايا سياسية استراتيجية، بل قام بمحاكمتهم وإلقائهم في السجون لفترات طويلة.
هذا هو سلوك ساسة الجمهورية الأولى ثم الجمهورية الثانية مع رفاق النضال وشركاء الحكم، فما بالك بمعارضيهم.

تجارب النظام المصري في الحوار قبل الصفقات جميعها فاشلة
وقد سار الرئيس مبارك في الجمهورية الثالثة على المنوال نفسه. صحيح أنه استقبل في قصر الرئاسة قادة المعارضة الذين ألقاهم سلفه الراحل في غياهب السجون، وصحيح أنه سمح للمعارضة، لأول مرة في تاريخ مصر، بأن تحتل مقاعد عديدة وصلت إلى حوالى 25% في مجلس الشعب، وأنه في أواخر عهده سمح للصحف المستقلة بحرية كبيرة في النقد، حتى لشخصه أحياناً، إلا أن فلسفة الحكم ظلّت كما هي. فمجلس الشعب نفسه انحسر دوره بصورة كبيرة جداً، والأحزاب ضمرت، عضوياً وسياسياً، لدرجة غير مسبوقة في التاريخ المصري، وحرية الكلام تحولت إلى حرية الصراخ دون أي تأثير، في ظل قسوة الأداة الأمنية التي تمنع تحوّل التذمر إلى فعل.
وتجارب النظام المصري في الحوار قبل الصفقات جميعها فاشلة. ففي الثمانينيات، عقد حوار وطني موسّع في جلسات استماع في مجلس الشعب، حضرتها قيادات كبيرة، منهم المرحوم المرشد الثالث عمر التلمساني. وفي التسعينيات قام حوار وطني آخر استُبعد الإخوان المسلمون منه رغم أنهم كانوا قد أصبحوا قوة سياسية كبيرة. وفي السنوات الأخيرة، عقد حوار بين قيادات الحزب الوطني (الشاذلي والشريف) وقيادات أحزاب المعارضة، ولم تؤدّ تلك الحوارات إلى شيء ملموس، بل صرّح قادة المعارضة عدة مرات بأن الأمر كان أشبه بحوار الطرشان، وأنه جرى لمجرد الاستماع إلى وجهات نظر المعارضة، وأن القرارات ليست في يد الحزب الوطني. وفي عهد لجنة السياسات، لم نعد نسمع عن حوارات أو لقاءات بين المعارضة وقيادات الحزب الجديدة.
أما الصفقات فهي أصعب، وتتميز بالسرية الشديدة، وغالباً ما تخضع لاعتبارات أمنية قبل الاعتبارات السياسية، وكان آخرها صفقة هزيلة رضيت بها أحزاب المعارضة بشأن مقاعد المجالس المحلية الأخيرة. وقد سمعت من المرحوم فؤاد باشا سراج الدين أثناء مفاوضاتنا في الثمانينيات (بين الإخوان والوفد) بغرض التنسيق لخوض الانتخابات البرلمانية، وهو التنسيق الذي نجح في 1984 وفشل في 1987، أنه عُرض عدد كبير من المقاعد البرلمانية على حزب الوفد شريطة أن يقوم الأمن والحزب الوطني باختيار الدوائر والأشخاص الذين يسمح لهم بالمرور الآمن إلى مجلس الشعب. ورفض ذلك في حينه، لأن ولاء هؤلاء لن يكون للوفد ولا لسراج الدين، ولكن لمن سمح لهم بالمرور. وقد صدّقت الأيام ظنّه في غالبية أعضاء المعارضة الرسمية الذين لا يتمتعون بشعبية في دوائرهم، وليست لهم عصبية عائلية تحمي عملية الانتخابات من التزوير الفاضح، ولا إمكانيات سياسية تعطيهم فرص النجاح أو حشد مندوبين لهم لمراقبة الانتخابات. ورأينا الكثيرين من أعضاء المعارضة أو المستقلين، منذ الثمانينيات حتى الآن، يؤدّون أدواراً واضحة لمصلحة الحزب الحاكم، رغبة في البقاء في مقاعدهم في مجلس الشعب أو رغبة في حماية مصالحهم الشخصية.
وقد أعلن الإخوان المسلمون مراراً وتكراراً أنهم يرحّبون بالحوار مع الجميع على قاعدة حماية أمن هذا الوطن الحبيب واستقراره، ورغبة في تحقيق مصالحه العليا، وحماية هويته الحضارية والثقافية، ولمنع أية تدخلات أجنبية تهدد الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن وتماسكه الاجتماعي. وقالوا مراراً وتكراراً لمن ولّاهم الله أمر هذه البلاد: «اسمعوا منّا ولا تسمعوا عنّا»، واحذروا من الركون إلى تقارير أمنية غير صادقة أو وشايات استخبارية أجنبية، أو دسائس سياسية صغيرة يقوم بها حزبيون يخلطون مصالحهم الشخصية بمصالح أحزابهم. ولا يزال ذلك هو موقف الإخوان المسلمين.
أما الصفقات التي يتحدث عنها الجميع، فإنه من العار أن يساوم أيّ نظام على حريات الأفراد وحقوقهم الدستورية والقانونية. ومن العار أن يجري احتجاز المواطنين واعتقالهم ومحاكمتهم استثنائياً أمام محاكم عسكرية، بغرض المساومة على حرياتهم وأرزاقهم ومصالحهم الأسرية والاقتصادية. وليس الإخوان هم الذين يتخلّون طواعية أو كرهاً عن حقوقهم كمواطنين، وإلا فلماذا قاموا من البداية وتصدّوا لمهمة الإصلاح الشامل، وهي عسيرة وكبيرة؟ ولماذا جعلوا التضحية ركناً أصلياً من أركان عهدهم مع الله عز وجل؟ ولماذا صبروا تلك السنوات الطويلة أمام الطغيان وضد الاستبداد ولم ينكّسوا رؤوسهم أو يخضعوا أو يفرّوا من الميدان أو ينكصوا على أعقابهم كما فعل آخرون؟!
إن مصالح البلاد العليا وحماية أمن الوطن واستقراره يقتضيان من كلّ العقلاء في هذا البلد الحبيب أن يتصدوا لمهمّتين أساسيتين:
ـــــ الأولى، إعلاء قيمة الحوار الوطني للاتفاق على القواسم المشتركة بين جميع المواطنين، وأن يكون ذلك الحوار مثمراً وإيجابياً وبنّاءً، لا مجرد إزجاء للكلام أو الوعود.
ـــــ الثانية، الابتعاد عن حديث الصفقات والمساومات والرضى بالاحتكام إلى الشعب بصفة دورية ليختار ممثّليه بحرية تامة، والنزول عند قرار الشعب في كل انتخابات دورية.
الوطن في خطر، والبلاد تمر في مرحلة انتقال السلطة، وهي من الأوقات العصيبة والقلقة، والمنطقة كلها تتعرض لأخطار شديدة في فلسطين والعراق والصومال والسودان، بل امتدت النار إلى الأطراف، في باكستان والصين وأفغانستان، والآن في نيجيريا، والأزمة المالية الاقتصادية العالمية تعصف بالجميع. فتعالوا إلى كلمة سواء لحماية مصالح البلاد والعباد وتحقيق الأمن والاستقرار... والله يهدي إلى سواء السبيل.
* قيادي في جماعة الإخوان المسلمين في مصر