بزورات، ورق شدّة، نراجيل، وسهرات طويلة. لا ينقص هذا الإعلان السياحي، سوى مطربٍ شعبي، يملأ بصوته، ليالي الساهرين. لكن، هذا ليس بإعلان، بل هو عرض لما يحصل في ربوع المساحة الخضراء بمحاذاة طريق «الكوكودي»، أي نهاية طريق المطار القديمة. حوّل الفقراء الرصيف الأخضر إلى حديقة عامة، يؤوبون إليها نهاية كل يوم، هرباً من اكتظاظ بيوتهم وفراغ جيوبهم وافتقار بلادهم إلى فسحة للعب أولادهم
محمد محسن
للوهلة الأولى، وعن بعد، يخطر للسيارات العابرة بمحاذاة طلعة «الكوكودي»، أنّ تظاهرةً ستبدأ، متّخذة من قطعة الأرض الخضراء هناك، نقطة تجمع وانطلاق. يعزّز هذا الانطباع، ارتفاع سحب دخان خفيف، يظنّون أنها من دواليب أُضرمت فيها النيران للتوّ. لكن الاقتراب من المكان يغيّر الصورة، فلا تظاهرة تحدث هناك ولا من يتظاهرون. ما يحصل، نزهة عائلات في «الطبيعة» الأقرب إلى متناولهم، ولو كانت قرب الزفت وخط السير العام، حاملين معهم، عدة «البيك نيك» من مأكولات وأراكيل ومشاريب، تتيح لهم سهرة لذيذة في هواء الليل الطلق، وخصوصاً أن الأولاد يجدون مسرحاً و«ممرحاً» يجوبون فيهما على سجيتهم هناك. اكتفى أهالي الأحياء الفقيرة، التي ألفت طرقاتها التظاهرات المطلبية، بقطعة خضراء صغيرة. لم يتظاهروا للمطالبة بحديقة عامة، بل فضّلوا تحويل فسحة خضراء مزروعة لأسباب مجرد تزيينية، إلى مكان مفيد لهم. فهواء الليل وإن كان أبرد من حر النهار، وخصوصاً في ظل انقطاع الكهرباء عن بيوتهم التي تصطفّ كالبراميل القادمة على متن بواخر الشحن، مثقل بدخان السيارات المارة.
هكذا، حالما تشير عقارب الساعة إلى السابعة والنصف مساءً، ويتغير لون السماء مع مغادرة الشمس لها، يبدأ الزوّار بالتوافد إلى «المنظر التجميلي» الذي أنشأته بلدية برج البراجنة بتمويل من الهيئة الإيرانية لإعادة إعمار لبنان، بعد عدوان تموز 2006. مع بداية الصيف، قرر أهالي المناطق المحيطة بالكوكودي، اللجوء إلى بقعة أرض، لا تملك من مقوّمات الحديقة العامة، إلّا شجيرات صغيرة وعشباً أخضر، يرسم، مع بقايا البزورات المرميّة، فسيفساء شكلها الجديد.
لا حدائق عامة في منطقة الرمل العالي حيث تسكن سماح
يفتح سؤال المتنزهين عن لاقانونية تنزّههم قرب الرصيف، وتشويه المنظر العام، باباً أمام أجوبة كثيرة، غلب عليها التأفف. «غلط أو ممنوع؟» تسأل سماح أمهز لتجيب بنفسها: «إذا كانت القعدة هون غلط معليش، في كتير أغلاط عم تصير، وإذا ممنوع تنعرف ونفل». «غلط» سماح مبرّر بالنسبة إليها وإلى كثيرين من زوّار «الحديقة». إذ لا حدائق عامة في منطقة الرمل العالي حيث تسكن، ولا في الضاحية عموماً. تضيف أم الأولاد الثلاثة همّاً آخر. لا أموال تكفي لسد أجرة السيارة من الرمل العالي إلى حديقة الصنائع، وإن وجدت، فحتماً لن توجد أموال مماثلة لشراء قليل مما يشتهيه الأطفال.
هؤلاء الأخيرون، لا يملّون من الركض واللعب في هذه الحديقة، لكن أكثر ما يخيف أهاليهم، هو انخفاض سور الحديقة، المثبّت فوق النفق، الذي يسهل على أي طفلٍ العبور من تحته نحو.. دواليب السيارات المسرعة. المخاطرة بالأطفال هنا، تبدو لأبي محمد، أسهل من نار انقطاع الكهرباء شبه الدائم في البيت. تبقى عيونه على أطفاله أثناء لعبهم «أربعاً وعشرين على أربع وعشرين، على عكس كهربا الدولة»، يقول مازحاً ويدعوك إلى احتساء كوب من المشروبات الغازية. بعد جردة الحديث عن غياب الحدائق العامة وانقطاع الكهرباء الخانق، يظهر أن همّ أبي محمد اقتصادي بالدرجة الأولى. هو كغيره من سكان الأحياء الفقيرة، صاحب مصلحة لا يكفيه راتبه حتى نهاية الشهر. مدينة الملاهي ليست في أجندة مشاريعه. ينطلق من واقعه الصعب، ليعترف بأن «الجلوس قرب الرصيف غلط، بس والله اختنقنا من الشوب، وما في مصاري». أمّا الرحلة إلى «جنينة الكوكودي»، فلا تكلّفه أكثر من خمسة آلاف ليرة، تتوزع على «شوية مخلوطة، وقنينة عصير»، مشيراً إلى أنّه يأتي يومياً تقريباً مع أطفاله، من منطقة حي السلّم المجاورة سيراً على الأقدام.
العائلات ليست وحدها من زوّار الحديقة الجديدة، إذ يندر أن تسير دون رؤية مجموعات من الصبايا والشباب، وحتى العمّال السوريين وبعض العائلات السورية القاطنة في محيط المنطقة. تكمن المفارقة في استغراب العائلات السورية، للأسئلة التي توجّهها إلى الزائرين. كيف لا والأمر طبيعي جداً بالنسبة إليهم، وخصوصاً «أن في كل شارع عندنا في سوريا حديقة عامة، ومنعمل هيك سيران كل يوم»، تقول سمر الآتية مع زوجها من منطقة الحسكة في سوريا. تجلس سمر، مع أربع نسوة سوريات ومع أطفالهن العشرة. لا فرق بين إجاباتهن وإجابات العوائل اللبنانية، فانقطاع الكهرباء والحر لا يرحمان أحداً.
مقابل «الحديقة الجديدة»، تشاهد بعض محال الإكسبرسو والمقاهي الصغيرة. لا ريب في أنها استفادت من تكاثر المتنزهين هنا. هذا ما يؤكّده أحد أصحاب هذه المحال. يقود الحديث معه عن مدى الاستفادة الكبيرة، إلى حديثٍ أكثر أهمية، يرتبط بدور البلدية المعنيّة (بلدية برج البراجنة) بما يجري. يشير الشاب إلى أن البلدية كانت تقوم ببعض الأعمال، لـ«تهشيل المتنزهين» كرش الماء عند الثانية عشرة ليلاً لإرغامهم على المغادرة. هل يغادرون؟ لا، يجيب الشاب، مشيراً إلى مسألة توصيل كراسٍ وطاولات بلاستيكية إلى الحديقة المستحدثة، في موازاة طلبيّات النراجيل والمشروبات، حيث لا يمكن المتنزهين الجلوس على أرضٍ رطبة.
وبحسب صاحب المقهى، فإن البلدية منعت إدخال الكراسي والمشروبات بطريقة غير عادلة، إذ تشدّد الرقابة على محالّ دون أخرى. من جانبه، ينفي رئيس بلدية برج البراجنة محمد الحركة ما نسبه صاحب الإكسبرس إلى البلدية، لجهة التمييز بين المحالّ، ويشير الحركة إلى أنّ البلدية لا تمنع جلوس الناس في البقعة الخضراء، أو «شم الهوا»، لكنّ ما ترفضه البلدية بحسب حركة، هو تحوّل الحديقة إلى امتداد للمطاعم والمقاهي، وأن تصبح ملعب كرة قدم. كذلك يؤكد الحركة أن البلديّة ستعمد إلى تسييج الحديقة، إذا تفاقمت الأمور مع المحيطين بالحديقة، ووصلت إلى حدٍّ لا يمكن تحمّله.