لا يبدو أن «الزلزال» الذي أحدثته مواقف النائب وليد جنبلاط الجديدة يقتصر على فريق 14 آذار. فالترحيب الذي قابله به حزب الله تحديداً، يثير نقاشاً واسعاً في أوساط مناصري الحزب، بين رافض لنسيان «سلاح الغدر» ومتقبّل «نكاية» بالآخر السياسي. نقاش يمكن من يغوص في عمقه أن يسمع شكوى من يرفض الانقياد الأعمى وراء خطوات غير شعبية: كيف ننتقد الآخرين فيما نحن نحذو حذوهم؟
مهى زراقط
إنه ظهر الجمعة 14 آب، سكان الضاحية لا يعرفون بعد، ما إذا كان رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط سيشارك في احتفال الانتصار الذي تحضنه ضاحيتهم مساءً، أم لا. لكن مجرد احتمال المشاركة الذي أوحى به جنبلاط، يثير حوارات ساخنة بين المواطنين.
غير بعيد عن مكان الاحتفال، شبان يحضّرون للمناسبة وآخرون يتفرّجون. هنا تتوحّد الإجابة حول الترحيب بزيارة جنبلاط، بل إن أحدهم يدعو الله أن يأتي «حتى لو كنت أعرف أنه يكذب هذه المرة أيضاً». لماذا إذاً تتمنّى مجيئه؟ نسأل. «حتى يفقعوا جماعة 14 آذار» يقول ضاحكاً. لكن هذه «النكاية» التي تشكل مقياس هؤلاء الشباب، وبعضهم منضوٍ في الحزب، لاتخاذ آرائهم السياسية، لا تنسحب على الجميع.
في صالون للحلاقة النسائية، تجلس مناصرات لـ«حزب الله» أمام شاشة تلفزيون كبيرة مفتوحة على قناة المنار. يبدأ الحديث بمحاولات تكهن لما سيقوله الأمين العام للحزب عن احتمالات الحرب، ويتشعّب ليصل إلى جنبلاط. «بعدو عم يدرس الأمر»، تقول سيدة، مستخدمة الفعل نفسه الذي استخدم في نشرات الأخبار تعليقاً على احتمال مشاركة جنبلاط في الاحتفال. تعلّق ثانية: «إنشالله يجي... خلّيه يفزرن لجماعة 14 آذار. يموتوا بقهرهن. صدَّقوه ومشيوا وراه». تستنكر ثالثة مشاركته: «أنا مع إنو يشارك بكلّ اللي بدو إياه إلا في احتفال الانتصار. هذا احتفال لتكريم الشهداء، ما بيصير يحضروا واحد مثلو. هوّي سبب البلاء كلّو». يتحمّس الشاب العامل في الصالون، والذي لا يبدو أنه يتجاوز العشرين من العمر: «هوي اللي قال إنو سلاح المقاومة سلاح غدر بدو يجي يحتفل بالانتصار؟ هوّي اللي شوّه صورة السيّد (حسن نصر الله)؟ حدا قََبلو كان يسترجي يحكي عن السيّّد؟».
من كان يجرؤ على التعرّض لنصر الله قبل أن يشوّه جنبلاط صورته؟
قبل سنوات قليلة، كانت حماسة هذا الشاب لـ«السيّد» ستبدو غريبة. هو الذي يغطي «الجل» شعره بالكامل، فيما يبرز قميصه البلا كمّين عضلاته المفتولة بقوة «الفيزيك»، إضافة إلى الأوشام المتعدّدة. لكن الأمر تغيّر كثيراً منذ انقسام البلد بين 8 و14 آذار، وصولاً إلى انطلاق الشعار الشهير خلال حرب تموز 2006 «فدا إجر السيّد». هذا الشاب هو أيضاً واحد من الذين يناديهم نصر الله بـ«أشرف الناس»، والذين خصّتهم المقاومة بإعلاناتها الاحتفالية بالانتصار هذا العام، حيث تزّين مداخل الضاحية، كما شوارعها الداخلية، إعلانات ضخمة موجهةً الشكر إلى «شعب المقاومة ورجال الله» تحت شعار «أنتم».
عبارة «فدا إجر السيّد»، كانت تعبيراً كرّره كثيرون ليؤكدوا تضامنهم مع المقاومة خلال الحرب، لكنها لا تعني بالضرورة تقبلهم لكلّ خياراتها السياسية. صحيح أن جماهيرية الحزب الواسعة لا تكشف هذا الاختلاف، بين ما تقوم به «القيادة» وما تفكر فيه «القاعدة» أو تشعر به، لكن لسان حال كثيرين يكشف العكس. هذا على الأقلّ ما يمكن تلمّسه إذا حاول أحدهم الاستماع لحديث صريح عن رأي بعض أهالي الضاحية.
في دكان البقالة، حيث التلفزيون مفتوح أيضاً على قناة المنار، لا يحتاج الأمر إلى سؤال. يهزّ رجل سبعيني رأسه بعد أن يستمع إلى تحليل أحد الصحافيين على الشاشة، ويقول مستفزاً صاحب الدكان، المشهور في الحيّ بمناصرته لحزب الله: «شو؟ قال مشرّف جنبلاط الليلة؟ بدو يحرّر القدس هالمرة أو شو؟».
ينفعل البائع الشاب، ويقول بحدة: «ما تستفزّني. مش نايم مبارح وأنا عم بتخيّلو قاعد بالاحتفال. قعد مع السيّد (حسن نصر الله) وبلعناها، إنو ما بدنا فتنة. بس يجي ع احتفال الانتصار؟ شو خصّو فيه للانتصار؟ شو نسينا؟». يضع هذا الشاب خلفه صور عدد من أصدقائه المقاومين الذين استشهدوا خلال حرب تموز. بينهم، صورة شاب استشهد خلال الأحداث التي تلت قرارَيْ 5 أيار الشهيرَين. «ماذا سيقولون لأمّ هذا الشاب؟ جنبلاط صاحب القرارَين حاضر في احتفال الانتصار وابنكِ غائب عنه؟ والله عيب عليهم. بعد ناقص يروح يزور قبر الحاج عماد (مغنية)».
يقول عبارته الأخيرة بصوت مرتفع، فيبتسم الرجل صاحب التعليق الأول. لقد نجح في مهمته الاستفزازية، وها هو يجد أن لا بأس من إكمالها: «يللا، بتحكوا عن جماعتو إنو بيلحقوه ع العمياني، ما إنتو صاير فيكم نفس الشي، حدا فيكم بيقدر يحتجّ؟».
تشعل هذه الجملة نقاشاً أوسع، يتجاوز العلاقة مع جنبلاط إلى العلاقة التي يقيمها حزب الله مع مناصريه وجمهوره. «نحن غير» يقول شاب. «الحزب لم يتغيّر يوماً. طول عمرن مقاومة وبعدن. كيف منكون نفس الشي». «كيف تصفون إذاً العلاقة مع (النائب ميشال) عون؟». «عون هو من تغيّر، هو صار مع المقاومة».
يرفض شاب مقاربة الأمر بهذه الطريقة، ناصحاً بالتعامل مع الأمر بعقلانية: «أنا مثلاً سأكون سعيداً إذا حضر جنبلاط، لأن هذا يعني أنه عاد إلى موقعه الطبيعي بعدما كان قد أخذ الحزب الاشتراكي إلى مكان ليس له». «عاد؟ هل تصدّق أنه عاد؟» يسأله صاحب الدكان باستنكار؟ الشاب نفسه: «طبعاً لا أصدقه... لكني أيضاً لا أصدّق الباقين بمن فيهم السيد حسن. لا أساوي بينهما في التقلّبات، لكن يجب أن نعترف بأن الكلّ يغيّر في الحياة السياسية العامة. لماذا لا يتعرّض آخرون لهذا النقد كما هي الحال مع جنبلاط؟».
«مسخرة بمسخرة، إن كان هول أو هول. كلّن مثل بعضن» تقول سيدة ثلاثينية كانت تشتري علكة لابنتها، أعادتها بعدما اكتشفت ارتفاع سعرها 500 ليرة. «العلكة صارت بـ1500؟ كيف بدو يعيش الفقير؟». سؤال لا يبدو أن «هول» أو «هول» وحتى غيرهما يطرحونه... ربما لا يزالون يحسبون أن سعر البسكويت لم يرتفع؟ فليأكلوا البسكويت.