يدمج رئيس تحرير مجلة «الآداب» سماح إدريس، في هذا المقال، ما بين إعجابه بأطروحات المفكر الفلسطيني ــ الأميركي إدوارد سعيد حول القضية الفلسطينية، وما بين نقده لبعضها. والمقال هو كلمة ألقاها إدريس في ندوةٍ تكريميّةٍ لسعيد أُقيمت في مهرجان جبلة (سوريا) في منتصف شهر تمّوز، وشارك فيها الدكتور فيصل درّاج، وأدارها ثائر ديب
سماح إدريس*

«فكرة فلسطين» في سياق السرديّات التحرريّة الكبرى

لا مبالغةَ في القول إنّ فلسطين تقع في قلب أعمال إدوارد سعيد بعد هزيمة 1967. ففي الكارثة التي حلّت بها منذ عام 1948 تجسيدٌ وحشيٌّ، لا لما أعتبره ـــــ بحقّ ـــــ أطولَ احتلالٍ متواصلٍ منذ منتصف القرن العشرين فحسب، بل تجسيدٌ أيضاً لجملةٍ من الهموم التي احتلّت فكرَه طوال حياته. ومن هذه الهموم: تبريرُ الظلم بذريعة «الرسالة التحضيريّة»، وانتقاصُ الإمبرياليّة من ثقافة السكّان المحليّة، وتبرئةُ الغرب من محرقة اليهود الغربيين برمي تبعاتها على شعبٍ آخرَ عُدّ «دونيّاً وعائقًاً أمام مسيرة الإنسانيّة»، واستخدامُ «زنجيّ السيّد الأبيض» (أي السلطة الفلسطينيّة) في تنفيذ السياسات الاستعماريّة لقاءَ «فتاتيتَ» بانتاستونيّةٍ (والتعبير لسعيد). وقد رأى سعيد أنّ في اجتراح حلولٍ عادلةٍ لكارثة شعب فلسطين، تمثيلاً أخلاقيّاً عاليَ النبرة، يُنْصف شعباً مظلوماً اليومَ، من دون أن يأتيَ ذلك على حساب أحفادِ غزاةٍ تعرّضوا للظلم سابقاً. وبكلمة، فإنّ ما سمّاه سعيد «فكرة فلسطين» نموذجٌ صارخٌ للسرديّة التحرريّة الكبرى التي قدّمها في عمليْه البارزيْن، الاستشراق والثقافة والإمبرياليّة ـــــ وهي سرديّةٌ سَطعتْ فيها أسماء كفانون وإقبال أحمد على سبيل المثال لا الحصر.
من هنا، فإنّ على قارئ أعمال سعيد «الفلسطينيّة» ـــــ على رأسها المسألةُ الفلسطينيّة والكتبُ التي ضمّت مقالاتٍ ومقابلاتٍ أجريتْ معه (مثل سياسات الحرمان، ونهاية عمليّة السلام، والسلطة والسياسة والثقافة، وإسرائيل، العراق، الولايات المتحدة) ـــــ أن يقرأها وعينُه على ذينك العملين البارزين اللذين يُعدّان من أهمّ الأعمال الفكريّة في القرن الأخير.
تركّز عملُ سعيد، في ما يخصّ قضيّةَ فلسطين، على مخاطبة الجمهور الغربيّ من أجل توضيح صورة الظلم الصهيونيّ، وارتباطِه بالثقافة الغربيّة في تيّارها السائد، وتعريفِ الغربيين بآمال السكّان الفلسطينيين الأصليين وتاريخِهم وثقافتهم. ولكنّ سعيد يمّم، قبيْل توقيع اتفاقيّات أوسلو صيفَ 1993 بين منظمة التحرير وإسرائيل برعايةٍ أميركيّة، شطرَ الجمهور العربيّ. فتدفّقتْ مقالاتُه على المنابر العربيّة بين منتصف التسعينيات وآخرِ شهرٍ من حياته في أيلول (سبتمبر) 2003، حتى تجاوزتْ مئة وعشرين مقالاً في جريدة «الحياة» وحدها (فضلاً عن المحاضرات التي تخاطب الطلابَ والمثقفين العربَ في الجامعات العربيّة، كالجامعتين الأميركيتين في بيروت والقاهرة) (1). وعلى تلك المقالات والمقابلات ستنصبّ مداخلتي الآن.

مبادئُ عامّةٌ لحلّ الصراع على فلسطين

لكنْ، قبل الحديث عن رؤية سعيد إلى حلّ الصراع على فلسطين، وعن نظرته إلى شكل الدولة المرجوّة هناك، ينبغي التنبيهُ إلى ثلاثة مبادئ تمسّك بها تمسّكاً شبه حاسم على امتداد مسيرته الفكريّة:
أ ـــــ عدم إيمانه بإمكان زوال إسرائيل (2)؛ بل إنّه

للأسف، اقترح سعيد أحياناً «تشذيبَ» حقّ العودة أسوةً بتشذيب «قانون العودة»
يؤمن «بلاأخلاقيّة» طرد أيّ شعبٍ كان. يقول في هذا الصدد: «علينا أن نوضحَ للإسرائيليين، بما لا يقبل الشكَّ، أنّ كفاحَنا لا يَهدف إلى طردهم من الشرق الأوسط... لكنْ يمْكننا التأكيدُ لهم، كما حرِص مانديلا دوماً على التأكيد للبيض، أننا نريد لهم البقاءَ والمشاركةَ معنا في الأرض على أساس المساواة» (3). ويقول في مناسبةٍ أخرى: «لا أريد رؤيةَ رحيل مزيدٍ من الناس»، مضيفًا أنّ من حقّ الإسرائيليين البقاءَ شرطَ التخلّي عن إيديولوجيّتهم «التي تنْكر حقوقَ الآخرين» (4).
ب ـــــ المبدأ الثاني الذي تمسّك به سعيد هو ضرورةُ اعتراف إسرائيل بجرائمها وتهجيرها (5). ويقول في حواره مع آري شافيت: «لا يمْكن أن تكون هناك نهايةٌ للصراع إلى أن تعترف إسرائيلُ بمسؤوليّتها الأخلاقيّة عمّا فعلته بالشعب الفلسطينيّ... بالاحتلال... بتدمير المجتمع [الفلسطينيّ]... بالمعاناة على مدى الأعوام الاثنين والخمسين الأخيرة [صارت اليوم واحداً وستّين]، بما فيها مجازرُ مخيّميْ صبرا وشاتيلا» (6).
ج ـــــ أما المبدأ الثالث فهو تشبّث سعيد بحقّ عودة اللاجئين الفلسطينيين، وإنْ لم يعد الكثيرون منهم إلى فلسطين. يقول في الحوار نفسه عام 2000: «لستُ متأكّداً من عدد الذين سيريدون العودةَ، لكنني أعتقد أنه يجب أن يكون لهم الحقُّ في العودة» (7). (الجدير ذكرُه أنّ سعيد، للأسف، اقترح أحياناً، كما سنرى، «تشذيبَ» هذا الحقّ، أسوةً بتشذيب «قانون العودة» الإسرائيلي).

شكلُ الدولة المرجوّة

تبدّلتْ نظرةُ سعيد إلى شكل الدولة التي ينبغي أن تُبنى على أنقاض الاحتلال والتهجير والعنصريّة الصهيونيّة.
أ ـــــ أوّل الأمر، كان سعيد مناصراً للدولة العلمانيّة الديموقراطيّة على كامل فلسطين التاريخيّة. وهذا ما كان عليه أيضاً موقفُ منظّمة التحرير الفلسطينيّة (م.ت.ف) قبل عام 1974، أيْ قبل إعلان ما يسمّى «البرنامجَ المرحليّ» للمنظّمة المذكورة.
ب ـــــ لكنْ منذ أواسط السبعينيّات، صار سعيد منافحاً بشدة عن الحلّ القائم على دولتين فلسطينيّة وإسرائيليّة متجاورتين (8).
وفي عام 1988 قام في الجزائر بترجمة إعلان الدولة الفلسطينيّة (على حدود 67) إلى الإنكليزيّة؛ والأرجحُ أنه شارك في صياغته إلى جانب محمود درويش. وكان قبل ذلك بعامين قد أعلن أنه يقْبل بسيادة إسرائيل على ما بقي من فلسطين لأنه يَعدّ إسرائيلَ «واقعاً»، ولأنها «نتيجةٌ للتاريخ المأسويّ جدّاً للشعب اليهوديّ» (9). أما شكل الدولتين الذي ارتآه فهو أن تكُونَ لكلٍّ منهما حقوقٌ متساويةٌ لمواطنيهما، ولكنْ في «تفاعلٍ، بحيث يمْكن في النهاية خلقُ وضعٍ شبيهٍ بالكانتونات السويسريّة...» (10).
ج ـــــ بيْد أنّ إدوارد سعيد، بعد توقيع أوسلو عام 1993، صار مؤمناً بأنّ «الحلّ» القائم على دولتين فلسطينيّة وإسرائيليّة قد انتهى عمليّاً بسبب «توغّل الحركة الاستيطانيّة والحكومة الإسرائيليّة والجيش الإسرائيليّ في الحياة الفلسطينيّة»، إلى درجة استحالة الفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ولذلك راح يؤكّد منذ ذلك التاريخ أنّ «الاستنتاجَ الوحيدَ هو ضرورةُ إيجاد وسيلة كي يعيش الشعبان معاً متساوييْن في دولةٍ واحدة ـــــ لا كأسيادٍ وعبيدٍ كما هي الحالُ الآن» (11). بل بات يعتقد أنه حتى لو حُلّت مشكلةُ الطرق الالتفافيّة، وخُفض عددُ المستوطنات، فلا إمكان لإقامة دولة فلسطينيّة، لأنّ ما سيبقى من أرضٍ لتشييد هذه الدولة لن يتجاوز «النتاتيفَ الصغيرة» (12). يُضاف إلى ذلك أنّ سعيد أضحى في هذه المرحلة الأخيرة يرى أنّ الحلّ القائم على دولتين يتجاهل فلسطينيي الـ48 الذين سيبقون مواطنين «من الدرجة الثانية» في دولة إسرائيل. التحدّي إذاً، كما صار يعتقد، هو «إيجادُ طريقةٍ سلميّةٍ للتعايش، لا كأطرافٍ يهوديّةٍ ومسلمةٍ ومسيحيّةٍ محتربة، بل كمواطنين متساوين على الأرض نفسها» (13).
وتدريجاً، راح إدوارد يتحدّث هنا عن مفهوم «المواطَنة»، «وهو مفهومٌ لا يستند إلى العِرق والدين، بل إلى عدالةٍ متكافئةٍ يكْفلها الدستورُ لكلّ مواطن»، بديلاً من «التطهير العرقيّ، سواءٌ نفّذه الصربُ أو الصهاينةُ أو حماس» (يستشهد في هذا الصدد بعزمي بشارة) (14). وهذا الحلّ يمْكن في حسبانه أن ينطبقَ على كامل فلسطين التاريخيّة، في حال تطوُّر النضال الفلسطينيّ، وانجدالِه مع نضال «الإسرائيليين الشجعان» في الداخل والخارج، من أجل «تحوّل إسرائيل تدريجاً» على النمط الذي تحوّلت فيه جنوبُ أفريقيا من حال الفصل العنصريّ (الأبارتهايد) إلى حال المواطَنة.
مع ذلك، فإنه ينبغي القولُ إنّ سعيد لم يَجْلُ الفوارقَ بين «الدولة الديموقراطيّة العلمانيّة» (أو دولة المواطنة) وما سمّاه «الدولة الثنائيّة القوميّة»، وإنْ طلّق خيارَ الدولتين (15).

النقد الداخليّ شرطًا للتضامن الحقيقيّ

بعيْد إعلان الدولة الفلسطينية عام 1988، بدأ سعيد نقداً خافتًا لـ م.ت.ف. ولعلّ البادرة العلنيّة الأولى لهذا النقد كانت في مقابلة أجراها معه هشام ملحم في صحيفة «الفجر» (في كراتشي) عام 1990، حيث انصبّ نقدُ سعيد آنذاك على أداء المنظّمة في الساحة الأميركيّة. إنّ م.ت.ف، في رأي سعيد، لا تحاوِرُ إلا الموالين لإسرائيل هناك، فضلاً عن «سماسرة ووسطاءَ بين النضال الفلسطينيّ والشعب الأميركيّ»، بدلاً من الذهاب إلى جامعاتٍ ونقاباتٍ و«قطاعاتٍ عديدةٍ تدْعمنا كليّاً» (16).

ثمة علاقة بين المحرقة والكارثة الفلسطينيّة: فتلك أدّت إلى هذه
وفي غير مكانٍ، يتّهم سعيد م.ت.ف بأنها لا تعْرف المجتمعَ الأميركي، ولا حملة إعلاميّةً مبرمجةً لها هناك، ويؤكّد أنّ الحوار بين المنظمة وأميركا يجري «خلف أبواب مغلقة». وشيئاً فشيئاً راح سعيد يطوِّر نقدَه للمنظمة وياسر عرفات والسلطة الفلسطينيّة بعد أوسلو، مهتدياً بمبدأ لخّصه عام 1995 بالعبارات الآتية:
«لا معنى للتضامن مع القضيّة الفلسطينيّة قبل أن يسْبقَه النقدُ ويرافقَه. إنّ الكلَّ معرَّضٌ للخطأ، حتى ياسر عرفات. وتزداد أهميّةُ الدور الذي يؤديه النقدُ والتذكيرُ بالنواقص في غياب نظامٍ قانونيّ ودستوريّ متكامل [في الضفّة وغزّة]» (17).
وهو، في سبيل نقده الداخليّ هذا، يَرفض ما يسمّيه «الغلوَّ في الوطنيّة» (18)، ويسْخر ممّن يدين نقدَه بذريعة «الواقعيّة والبراغماتيّة»، مؤكّداً أنّ هذه الذريعة تستهْدف «ضمانَ بقاء السلطة [الفلسطينيّة] بعيدةً عن أيّ مساءلة» (19). كذلك يرفض «الواقعيين» الذين يعيبون عليه نقدَه بذريعة أنه «موجودٌ في نيويورك لا غزّة»، كأنما الوجودُ في غزة يمثّل «ضمانًا لقول الحقيقة أو لإدراك الواقع»، أو كأنّ «معظمَ الشعب الفلسطينيّ الذي تناسته عمليّةُ السلام الحاليّة لا يعيش... خارج فلسطين»! (20).
هكذا بدأ سعيد نقدَه للأداء الرسميّ الفلسطيني بالتساوق مع نقده للصهيونيّة والولايات المتحدة (والاستبداد العربي). ومن أبرز مظاهر نقده لسلطة عرفات (21): «بلطجةُ» المحيطين بها، و»الجيشُ الجرّارُ» من بيروقراطييها غير الأكفاء، وفسادُها، واعتمادُها الخصخصةَ «من دون هيئات مراقبة» (22) بحيث تكون من نصيب الأثرياء وأنصارِ عرفات وحدهم، وسرقتُها أموال المانحين الدوليين، واحتكارُ بعض مسؤوليها للسلع وموادّ البناء (23)، واعتقالُها الصحافيين الناقدين لعرفات (أمثال ماهر العلمي وبسام عيد) (24)، والتدهورُ الاقتصاديّ والبطالةُ في مناطقها، وكثرةُ أجهزتها الأمنيّة مع ما تستتبعُه من أكلافٍ باهظةٍ على الخزينة، وعدمُ كفاءة فريقها المفاوض في أوسلو، واعتمادُها على أميركا للحصول على أيّ شيء. وتباعاً، تكرّرتْ دعواتُ سعيد إلى الإصلاح الداخليّ الفلسطينيّ، العاجلِ والمتوسّطِ المدى والبعيد المدى، نذْكر منها ما يأتي:
1 ـــــ دعوته إلى وقف عمل الفلسطينيين في المستوطنات، وذلك عبر إنشاء صندوقٍ فلسطيني أو عربي لمساعدة العاطلين من العمل (25).
2 ـــــ مناشدته المفاوضَ الفلسطينيّ عدمَ التفريط بالقضيّة، بل الاقتداءَ على الأقلّ بالمفاوض السوريّ؛ يقول في هذا الصدد: «كلمةٌ أخيرةٌ لمؤيّدي عرفات الذين يواصلون القولَ إننا لا نملك خياراً آخرَ: ألا يمثّل الخيارُ السوريّ، أي القبولُ بفكرة السلام والمفاوضات مع التمسّك بالمبادئ والأولويّات الوطنيّة، بديلاُ آخرَ؟» (26).
3 ـــــ مطالبته فلسطينيي الشتات بتنظيم أنفسهم وإجراءِ استفتاءٍ في ما بينهم، لأنّ سلطة عرفات «مشغولةٌ» بنفسها وبالضفّة وغزة («80 % [من الفلسطينيين] لا يشعرون بالمشاركة بل هم مستثنَوْن» كما يقول). وفي هذا المجال يشدّد سعيد على وجوب إجراء إحصاءٍ دقيقٍ لفلسطينيي الشتات، ولممتلكاتهم التي خسروها، وللقرى المدمَّرة (27).
4 ـــــ وارتباطاً بهذا، يطالب سعيد بإنشاء مكتب خدماتٍ استراتيجيّةٍ لتناول قضايا الماء والحدود وغيرِ ذلك، لأنّ إسرائيل هي التي تحتكر المعلوماتِ عنها. ويركّز في هذا الخصوص على مِلفّ التعويضات: فالعراق يطالَبُ بدفع تعويضات عن سبعة شهور من احتلاله الكويتَ، «أما نحن فلم تقم هيئةٌ بجمع المعلومات» عنا حتى الآن!
5 ـــــ مطالبته فصائلَ المقاومة بنبذ الكفاح المسلّح وما يسمّيه «العمليّات الانتحاريّة» (28)، وذلك انطلاقًا من لاجدوى العنف ولاأخلاقيّته، كما يزعم.
6 ـــــ إلحاحه على بناء الذات بدلاً من الاعتماد على الولايات المتحدة، التي يشْهد تاريخُها كلُّه على مساندتها القمعَ والرجعيّةَ، بحسب قوله. ويركّز سعيد في هذا المجال على ضرورة تمويل بنية التعليم الجامعي بكاملها، وعلى إنشاءِ مكتبةٍ وطنيّةٍ فلسطينيّة (29). أما في الموضوع الاقتصاديّ، فيأسف سعيد لاعتماد السلطة الفلسطينيّة على الأميركيين واحتفاظها بمؤسسة آرثر آندرسون الاستشاريّة الأميركيّة لتنظيم حملة إعلانات لاجتذاب الاستثمارات (30).
7 ـــــ مناشدته الفلسطينيين والعربَ دراسةَ الهولوكوست (المحرقة النازيّة) بصورةٍ جدّية، ودراسةَ أثرِها في «الضمير اليهوديّ والضمير الغربيّ»، على الرغم من استغلال إسرائيل لها من أجل تحقيق «أهداف سياسيّة» (31). فبحسب سعيد، لا يمْكن إنكارُ العلاقة بين المحرقة والكارثة الفلسطينيّة: فتلك أدّت إلى هذه، والمطلوبُ الاعترافُ بالتجربتين معاً.
نعم، كان يمْكن إيواءُ اليهود الأوروبيين في أميركا أو كندا أو إنكلترا؛ وصحيحٌ أنّ البريطانيين مسؤولون عن السماح لهم بالمجيء إلى فلسطين (32)؛ لكنْ يقول سعيد: «لا أريد رؤيةَ رحيل المزيد من الناس».
8 ـــــ دراسة تاريخنا، مثل ما حدث لنا في دير ياسين. وهو ما يسمّيه سعيد أحيانًا «تغذيةَ الذاكرة الجماعيّة» (33)، أو «العودةَ إلى الذات»، بمعنى العودة إلى التاريخ لفهمِ ما حدث بالضبط ولماذا ومَن نحن. وهو في هذا يستدعي إلى أذهاننا، ربّما، مشروعَ قسطنطين زريق الفكريّ لفهم «معنى النكبة»، ومساعيَ الدكتور جورج حبش (النبيلةَ لكن المتعثّرة) لإنشاء «مركز الغد» لدراسة أسباب هزيمتنا وسبلِ القيامة.
9 ـــــ إصرار سعيد الدؤوب على إنشاء إعلامٍ أخلاقيّ يُظْهر للعالم ما ارتُكب ضدّنا، «وهذه، كما أرى الآن، هي المَهمّةُ الجوهريّةُ التي تواجهنا كشعب حاليّاً» (34). «ففي الأساس يجب أن نَكسبَ صراعَنا مع الصهيونيّة أولاً على المستوى الأخلاقي... آخذين في الاعتبار أننا سنكون دائماً أضعفَ عسكريّاً واقتصاديّاً من إسرائيل ومؤيّديها». وقد تبيّنتْ له أهميّةُ المنحى الأخلاقي في النضال، أوّلَ ما تبيّنتْ، في زيارته إلى جنوب أفريقيا حين قال له والتر سيسولو: «هُزمنا في الثمانينيّات... وأدركْنا وقتها أنّ أملَنا الوحيدَ هو التركيزُ على الساحة الدوليّة... كلُّ انتصار أحرزناه في لندن أو غلاسكو... أو برلين أو ستوكهولم أعطى الشعبَ في الداخل شعوراً بالأمل، وجَدّد عزمَه على مواصلة الكفاح. وبمرور الوقت استطعنا فرضَ العزل الأخلاقي على النظام...» (35).
10 ـــــ تركيزه على وجوب بناء صوتٍ فلسطيني فعّالٍ في أميركا، بديلاً من عرفات الذي لا يعرف التعاملَ مع الصحافة الأميركيّة، ولا يتحدّث الإنكليزيّةَ كما يجب، ولا مستشارين صحافيين دائمين له على صلة بالصحافة (36).
11 ـــــ دعوته الأكاديميين والخبراءَ إلى الامتناع عن زيارة إسرائيل «إلا إذا سعوا إلى زيارة جامعاتٍ ومعاهدَ فلسطينيّةٍ وتقديم الدعم لها» (37).
12 ـــــ مطالبته الفلسطينيين بالاتصال بـ«الإسرائيليين الشجعان» خارج الأقنية الرسميّة، أمثال إيلان بابيه وإسرائيل شاحاك، ودعوته إيّاهم إلى القيام بنضالاتٍ مشتركةٍ من قبيل «إطلاق حملةٍ دوليّةٍ ضدّ المستوطنات» أو «مسيراتٍ مختلطةٍ ضدّ مستوطنات رئيسة (38)». فأملُنا الأفضلُ، كما يكرِّر، هو النضالُ المشتركُ مع اليهود الإسرائيليين «كي نؤلّف منهجاً للتعايش بأقلّ ما يمْكن من الإكراه ـــــ إمّا من خلال كانتوناتٍ على النمط السويسري أو بطرقٍ أخرى». وهو في هذا الصدد، يسخِّف مقاطعةَ «كلّ شيء إسرائيلي»، مهما كانت هويّتُه السياسيّة (39).
في نقد المعلّم إدوارد سعيد
علّمنا العزيز إدوارد أنّ النقد هو من أهمّ الأمور التي نمْلكها في حياتنا العقليّة. ومن درسه البليغ هذا، سلّحَنا بما نستطيع أن ننتقدَه به، بلا خوفٍ من «اغتياب». ومن نقدنا له نورد الملاحظاتِ السريعة الآتية:
1 ـــــ قد لا نوافقه على اعتباره أنّ الأخلاقَ هي «الميدانُ الوحيدُ لصراعنا» ضدّ إسرائيل (40)، رغم إيماننا بأهمّيّة فضح إسرائيل أخلاقيّاً في العالم.
2 ـــــ وقد لا نتبنّى اعتبارَه كلَّ أشكال الكفاح المسلّح غيرَ ذاتِ جدوى؛ ذلك أنّ ما فشِل قد يكون نمطًا محدّداً من ذلك الكفاح. وبدلاً من إدانة المبدأ في ذاته، فإننا نقترح تطويرَ نموذجٍ أفضلَ للكفاح المسلّح، نظرياً وميدانياً، يستند إلى بعض التجارب العسكريّة الناجحة، في الجزائر ولبنان مثلاً، وربما في فلسطين نفسها (تجربة غيفارا غزّة قبل بضعة عقود). وعوضاً من أن يقتصر الكفاحُ على الميدان الأخلاقي وحده، فلعلّ الأنجعَ ربطُه بالكفاح الاقتصادي (المقاطعة والنضال الشعبي الدولي من أجل سحب الاستثمارات الخارجيّة من الكيان الصهيوني) والنضال العسكري، شرط أن يكون هذا الأخيرُ محسوباً بدرجةٍ أعلى ممّا تحصل به بعضُ الهجمات العشوائيّة. وبدلاً من أن يَطمس الجانبُ العسكريّ كلَّ جوانب المقاومة الأخرى، فإنّ على الجوانب جميعِها (الثقافيّة والاقتصاديّة والعسكريّة) أن تتكامل.
3 ـــــ على الرغم من إدانة إدوارد سعيد للتفاوض الحاليّ لأنه لا يستند إلى الملفّات الفلسطينيّة المشغولة بعناية، فإنّ في مقدورنا أن نسأله، ولو في غيبته، السؤالين البدهيّين الآتيين: أيمْكن راهناً، حيث المفاوضُ الفلسطيني أضعفُ بما لا يقاس من أيّ زمنٍ مضى، أن تكون هناك مفاوضاتٌ «عادلة»؟
ألا تَفترض المفاوضاتُ العادلةُ ندّيْن على صعدٍ كثيرة، تتجاوز الصعيدين الأخلاقيّ والإعلامي نفسيهما؟
4 ـــــ يبالغ سعيد في أثر الحملة الإعلاميّة والشعبيّة داخل «الغرب». صحيحٌ أنّ السفارات العربيّة ومنظمةَ التحرير والسلطة الفلسطينيّة في الولايات المتحدة تقاعستْ عن واجباتها في محاربة الدعاية الصهيونيّة؛ وصحيحٌ أنّ على العرب أن يركّزوا على مجموعاتٍ أميركيّةٍ غيرِ تلك التي دأبوا على استمالتها، وأن يتوجّهوا من ثمّ إلى الهسبانيين والأميركيين الأفارقة وغالبيّة الكنائس غير الأصوليّة في الجنوب الأميركي والدوائر الأكاديميّة، بل إلى بعض يهود أميركا أنفسهم (41)، ولكنني أجدني أمْيلَ إلى تبنّي أطروحة عزمي بشارة (مسرح المدينة، بيروت، 8/9/2008)، وهي أنّ «الغرب» لن يتغيّر ما لم نُثبتْ له قدرتنا على أن نُلْحق بالعدوّ الإسرائيلي أضراراً جسديّةً واقتصاديّةً (فضلاً، طبعاً، عن الأضرار الأخلاقيّة والمعنويّة (42).
5 ــ تحدّث سعيد في كثير من الأحيان عن حلٍّ قائم على دولة ثنائيّة القوميّة. فلو نحّينا جانباً أنه لم يميّزْه (في معظم الأحيان) عن الحلّ المستند إلى بناء دولةٍ ديموقراطيّةٍ علمانيّةٍ واحدةٍ على كامل فلسطين التاريخيّة، فإنّ «الحلّ» الأولَ يثير في نفوسنا الحيرةَ، كما يقول رفيقي عمر البرغوثي: إذ على أيّ فرضيّاتٍ يستند طرحُ الدولة الثنائيّة القوميّة؟ وما هي «القوميّةُ» الثانيةُ أصلاً؟ وهل يعدّ اليهودُ الإسرائيليون أنفسَهم قوميّةً؟ ألا يعترفون، من خلال جميع مؤسّساتهم التمثيليّة، بـ«القوميّة اليهوديّة» فقط؟ (43).
6 ــ من أجل الوصول إلى «حلّ» للصراع الإسرائيليّ ـــــ الفلسطينيّ، لا يتردّد سعيد لحظاتٍ، وإنْ قليلةً، في التخلّي عن شيءٍ من حقّ العودة وشيءٍ من ارتباط فلسطين بالوطن العربي. يقول بالحرف: «يتعيّن النظرُ في قانون العودة لليهود، وحقِّ العودة للاجئين الفلسطينيين، وتشذيبِهما معاً. ونحتاج إلى أن نحدَّ، من حيث المدى والإقصائيّة، من فكرتيْن على السواء: فكرةِ إسرائيل الكبرى باعتبارها الأرضَ التي منحها اللهُ لليهود، وفكرةِ فلسطين باعتبارها أرضاً عربيّةً لا يمْكن أن تُعزلَ عن الوطن العربي» (44).
لكنْ كان بإمكان سعيد، مثلاً، أن يتأمّل طروحاتٍ أخرى، بدلاً من الانتقاص من حقّ العودة (غيرِ القابل للتصرّف بالمناسبة!). ومن هذه الطروحات طرحُ «عروبةٍ جديدةٍ» يندرج اليهودُ وكلُّ الإثنيّات والأقليّات فيها على أساس المواطنة والعدالة والمساواة، وعلى أنقاض أوهام التفوّق العنصري. والحقّ أنّ سعيداً اقترب إلى حدّ ما من ذلك الطرح، وذلك حين قال عام 2000، ردّاً على سؤالٍ عن إمكان عيش أقليّةٍ يهوديّةٍ بسلام في سياقٍ عربي عام:
«نعم، أعتقد أنّ ذلك قابلٌ للتنفيذ. يمْكن لأقليّةٍ أن تتعايش تماماً كما بقيتْ أقليّاتٌ أخرى في العالم العربي... أودّ رؤيةَ نوعٍ من اندماج اليهود في نسيج مجتمعٍ أكبر، لديه قدرةٌ أكبرُ على البقاء رغم تشوّهات الدولة ـــــ الأمّة... إنّ تعريفي لمصطلح «بان آراب» (PAN ARAB) يشْمل المجموعاتِ الأخرى، بما فيها اليهودُ، ضمن إطارٍ عربيّ ـــــ إسلاميّ» (45).
ولعلّ هذا يكون موضوعاً لحوارٍ ثانٍ أطولَ مع الحبيب والمعلّم الكبير إدوارد، إذ يبدو لكليْنا أنْ لا أفقَ لفلسطين خارج العروبة... شرطَ ألا تكون عروبةً إقصائيّةً منغلقةً تأْسر المسلمين والمسيحيين والعلمانيين قبل أن تأسرَ اليهودَ!


1 كل الإحالات على جريدة الحياة هنا موجودة في كتاب «نهاية عملية السلام: أوسلو وما بعدها» (بيروت: دار الآداب، 2002).
2 الحياة، 12/2/98 ـــــ 3 الحياة، 9/6/98
4 حوار مع آري شافيت، هآرتس، 2000، موجود ضمن كتاب «السلطة والسياسة والثقافة»، ترجمة نائلة قلقيلي حجازي (بيروت: دار الآداب، 2008)، ص 488ـــــ489.
5 الحياة، 25/9/97 ـــــ 6 مصدر مذكور سابقاً
7 المصدر السابق
8 راجع مثلاً حواره مع ماثيو ستيفنسون في «ذا بروغرسيف»، 1987، وذلك ضمن كتاب «السلطة والسياسة والثقافة»، مرجع مذكور، ص 338.
9 حوار مع تيموثي آبلاي، «ذا غلوب آند مايل»، 1986، وذلك ضمن الكتاب السابق ص 313.
10 حوار مع معين ربّاني، «جورنال أوف بالستاين ستاديز»، واشنطن، 1995، وذلك ضمن الكتاب السابق ص 441.
11 ضمن الكتاب السابق، ص 469. حوار مع أريك بلايك، «ستار تريبيون»، 1999
12 المصدر السابق، ص 470.
13 الحياة، 1/10/1996. ـــــ 14 الحياة، 30/6/98.
15 الحياة، 1/2/1999.
16 حوار مع هشام ملحم، «الفجر»، كراتشي، 1990، ضمن «السلطة والسياسة والثقافة».
17 الحياة، 8/11/1995. ـــــ 18 الحياة، 29/10/1996.
19 الحياة، 8/11/1995 ـ ــــ 20 الحياة،1/10/1995.
21 الحياة، 1/10/1995. ـــــ 22 الحياة، 12/12/1995.
23 الحياة، 19/6/1997. ـــــ 24 الحياة، 19/11/96.
25 الحياة، 10/4/98، و12/12/2000.
26 الحياة، 1/10/1995. ـــــ 27 الحياة،11/2/2000.
28 الحياة، 21/10/97. ـــــ 29 الحياة، 12/11/98.
30 الحياة،11/2/2000. ـــــ 31 الحياة، 5/11/1997.
32 حوار مع آري شافيت، مصدر مذكور سابقاً.
33 الحياة، 25/4/1997. ـــــ 34 الحياة، 25/9/1997.
35 المصدر السابق.
36 حوار مع منير ناصر، «أراب أميريكان نيوز»، 1990، ضمن كتاب «السلطة والسياسة والثقافة».
37 الحياة، 25/9/1997. ـــــ 38 الحياة، 9/6/1998.
39 الحياة، 20/6/1998.
40 الحياة، 25/9/1997. ـــــ 41 الحياة، 17/4/2001.
42 سماح إدريس، جريدة الأخبار، 2008.
43 عمر البرغوثي، تقديم ملفّ «الدولة الديموقراطيّة العلمانيّة»، مجلة الآداب، العدد 9 ـــــ 10، 2009.
44 الحياة، 1/2/99
45 حوار مع آري شافيت، مذكور سابقاً.