حسام كنفاني


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

الرئيس المصري حسني مبارك في واشنطن لبحث إطلاق خطة باراك أوباما للسلام. وفد مصري يجول بين دمشق ورام الله وغزّة لتثبيت موعد إنهاء الانقسام في الخامس والعشرين من الشهر الجاري في القاهرة. حركتان مصريتان هدفهما واحد، «القضيّة الفلسطينية»، التي باتت أسيرة أطراف ثلاثة أساسية، ومعها مجموعة من المحاور الدولية والإقليمية. محاور تمثّل القاهرة جزءاً أساسيّاً منها، إلا أنها لا تزال تحاول أداء دور «الوسيط المحايد» في المفاوضات الخاصة بالقضيّة الفلسطينية. المفاوضات لا تعني حكراً تلك القائمة بين السلطة وإسرائيل؛ فخلال السنوات الماضية استُحدثت مجموعة موازية من المفاوضات التي تقدّمت على تلك الأساسيّة الخاصة بإقامة الدولة. مفاوضات قائمة على توحيد شطري «الدولة» المنقسمة على نفسها.
مفارقة مبكية مضحكة في آن واحد. أن يتحول الهمّ الفلسطيني إلى الداخل، أو أن يكون الأطراف الفلسطينيون أنفسهم محتلين للقضية المركزية. قد تكون كلمة «احتلال» قاسية في التعامل مع الفصائل المتصارعة على الساحة الفلسطينية، إلا أنها أكثر واقعية من غيرها حالياً؛ فالشعب الفلسطيني في الضفة الغربية أو قطاع غزة، قابع تحت رحمة مزاجيّة السلطة، ومن ورائها حركة «فتح»، أو الحكومة المقالة ومن ورائها «حماس».
على مدى السنوات الستين الماضية، عمر الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، لم تصل القضية إلى هذا الدرك من السوء، أو إلى هذه المفارقة. كانت «منظمة التحرير» تمسك بتلابيب القضية، وتحتكرها إلى حد كبير، لكن أصواتاً عالية كانت تصدر عن قادة تاريخيين لهم وزنهم في التاريخ النضالي، يحسب لهم حساب في تصحيح البوصلة، أو على الأقل تعديل وجهتها. حتى وإن دخلت القضيّة في زواريب أردنية ولبنانية، كانت الوجهة تصحّح في النهاية باتجاه فلسطين.
لكن مع الدخول إلى فلسطين بعد اتفاقات أوسلو، بدأت سطوة «حلم السلطة» تسيطر على ما دونها من الأولويات الفلسطينية. وأخذ الاحتكار معنى أكثر فجاجةً، والبوصلة باتت خاضعة لمزاج واحد يفرض وجهتها بكل الأساليب الممكنة، ترغيب وترهيب وقمع واعتقال وتآمر. وبعد الرابع عشر من حزيران عام 2007، تاريخ «الحسم العسكري» لحركة «حماس» في قطاع غزة، أصبح للقضية الفلسطينية مرجعيتان، لكل واحدة منهما حساباتها وأدواتها وسياستها ورؤيتها لآلية التعامل مع اليوميات الفلسطينية ومستقبل «الدولة». رؤى وحسابات متناقضة ومتعارضة، كل منها يشدّ القضية باتجاهه، حتى بات التمزيق العنوان الوحيد.
السلطة ورئيسها محمود عبّاس، مع ما بات يمثّله من «زعامة» في حركة «فتح» بعد مؤتمرها السادس، يرفعان راية المفاوضات خياراً واحداً أحداً، حتى وإن كانت المفاوضات مع الاحتلال الإسرائيلي تسير في حلقة مفرغة منذ عام 2000 على الأقل بعد انهيار مفاوضات كامب ديفيد وتلاشي تفاهمات طابا.
كثيرون استبشروا خيراً في إبقاء «فتح» «الكفاح المسلّح» في برنامجها السياسي، الذي أزعج الإسرائيليين والأميركيين. فما لبث عبّاس أن خرج برسائل تطمين مباشرة: «لا طريق إلا المفاوضات»، وما ورد في بيان «فتح» لا يعدو كونه حبراً على ورق لا تصريف له على أرض الواقع.
خيار بات يأسر القضيّة الفلسطينية من وجهة نظر «سلطة ـــــ رام الله» وحركة «فتح»، وما تمثّله من امتداد لاستراتيجيّات إقليميّة ودوليّة، بغضّ النظر عن النتائج. فالمفاوضات أصبحت لمجرّد المفاوضات وبلا شروط، بينما الحوار الداخلي يسير وفق جدول مطالب معقّدة يبقيه في دائرة المراوحة.
في المقابل، فإن «حماس»، وحكومتها المقالة في قطاع غزّة وما تمثلانه من استراتيجية إقليمية ودولية، ترفعان المقاومة شعاراً لا حياد عنه. لكنهما في الوقت نفسه تضعانه في خدمة أهدافهما ورغباتهما السلطوية. فالخيار الذي دخلت «حماس» في مراحل تعديله على استحياء، غير مجدٍ حين تكون الحركة في موقع المهادن، وهي تعمل جاهدة على قمع كل ما من شأنه «تعكير الاستقرار» في القطاع، ولا سيما أنها ماضية حاليّاً في تثبيت سلطتها على غزة. وهي لهذه الغاية تدخل في مواجهات فرعيّة مع الجماعات السلفيّة التي تغلغلت أصلاً في القطاع بمباركة «حماس» ورعايتها، حتى وإن نفت ذلك. فتجربة الحركة الإسلامية مع «جيش الإسلام»، وتعاونهما في أسر الجندي جلعاد شاليط، خير دليل على أن وجود مثل هذه الجماعات أبعد من مجرّد متسللين من «الجهاد العالمي». إلا إذا كانت مهارة «حماس» في كشف «المؤامرات» تقف حكراً عند تلك التي تحوكها «فتح».
وبين «فتح» و«حماس»، تأتي إسرائيل واستيطانها واعتداءاتها لتكمل «ثالوث احتلال» فلسطين. احتلال بات الشعب الفلسطيني أسيراً لتداعياته وتفاصيله، التي قلبت المعايير وأعادت ترتيبات الأولويّات، وشرّعت الأبواب أمام اليأس ليتسلل إلى نفوس المواطنين المشرذمين بين سرقة الأرض... والقضيّة.