لطيفة بوسعدن *وأخيراً، جاء التعديل الحكومي المنتظر. مبادرة الملك لمناسبة عيد الجلوس العاشر أخرست لغة التكهنات وتداول السيناريوهات المحتملة. تعديل جزئي وثانوي للحكومة خصّ أربع وزارات، حمل حزب «الحركة الشعبية» نحو حكومة عارضها منذ 2007، وأكد اصطفاف حزب «الأصالة والمعاصرة» في المعارضة (وهو الحزب الذي يصطلح على تسميته في السجال السياسي المغربي حزب «صديق الملك»). وهذا سيعارض برنامج حكومة ساندها منذ تعيينها، فلعل من شأن هذا التحول نحو المعارضة أن يخفف من وطأة صورة غدت تستبطنها المخيّلة السياسية الشعبية، أي الارتباط بين نشأة الحزب والقصر الملكي... وعموماً الملكية في حركتها السياسية بعد الانتخابات البلدية، وضعت استراتيجية لتأكيد استمرار التحالف الحكومي القائم، بعدما زاد من ضعفه انسحاب «الأصالة والمعاصرة» منه عشية الانتخابات الأخيرة! وتنفّس «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» الصعداء بعدما أعاد إليه التعديل الحكومي وزارة الثقافة التي ينجح في تدبيرها، وأبطل بالتالي تكهنات بعودة الحزب نحو صفوف المعارضة. فالعهد الجديد لن يأمن تبعات تلك العودة، ووضع الحزب تحت «المراقبة» وضعية أريَح.

كيف لمَلَكية أن تنجح في الانتقال نحو الديموقراطية في ظل يسار حكومي أصبح ملكياً أكثر من الملك؟

التدخل الدستوري للملك لم يحيّد حزب «الاستقلال» عن قيادة الحكومة، كما توقع البعض، ليضع مكانه الحزب الجديد. فالتعديل جاء كجراحة تجميلية لعمل حكومي يقوده الاستقلالي عباس الفاسي، رغم شيوع مطلب التخلّي عن «الاستقلال» والفاسي، بعدما فشلت حكومته في إدارة الأزمات الاجتماعية الخانقة، وفي مقدّمها ارتفاع الأسعار، والحوار الاجتماعي، فأصبحت كأنها تعيش أيامها الأخيرة رغم أنها في أشهرها الأولى، فيما دأب الوزير الأول على التقليل من أهمية مثل تلك الدعوات، لا لثقته بانسجام ائتلافه الحكومي ونجاعة برنامجه، بل لأنه كوزير أول يطبّق برنامج الملك. ذلك ما صرّح به مراراً. وللتذكير، فهذه الحكومة أفرزتها عملية انتخابية كانت نسبة المشاركة فيها ضعيفة جداً... ثم، ألا يستلزم خروج حزب من الحكومة ودخول آخر تعديلاً في برنامج الحكومة نفسها؟
التعديل الحكومي أكد من جهة أخرى أن «الحركة الشعبية» ما زالت تؤدي بامتياز دور حزب «الصرف»، ذلك الدور الذي خص به الملك الراحل العديد من الأحزاب. وبالسهولة نفسها الذي تموقع بها داخل المعارضة، ها هو يعود إلى الحكومة مبتدعاً مقولة سياسية جديدة هي «المشاركة الرمزية». وما أسهل خلق مثل هذه المقولات في محيط يفتقد لغة المؤسسة والصدقية! لكنّ العودة قد لا تكون هذه المرة حميدة، فالعديد من أطر الحركة نعتوا استيزار أمينهم العام بالهرولة نحو الحكومة بحقائب وزارية ضعيفة مقارنة مع مرتبته الانتخابية. فمنصب وزير دولة أو وزير بدون حقيبة لطالما جرّ على حامله العديد من الانتقادات، فيما بدا حزب العهد الملكي الجديد غير معني بالحكومة، وهو الآن يجرّب دور المعارضة ودخل في صراعات إعلامية وقضائية مع الحزب الإسلامي أي «العدالة والتنمية»، الذي يعدّ وجوده خطراً على الديموقراطية. لكن المؤكد أن هذا الوافد الجديد على الحقل الحزبي المغربي، ينتج المفاجأة تلو الأخرى، كان آخرها تحوّله، بمبررات غير مقنعة، نحو المعارضة. ولأنه الحزب الذي وُلد وفي فمه ملعقة من ذهب، فقد اكتفى بمبلغ مليار درهم لتغطية مصاريفه الانتخابية، وهو مبلغ لم يسبق لحزب أن صرفه على حملاته الانتخابية، وفي ذلك لا يمكن أن يتنافس المتنافسون. طبعاً لا يتوقع أحد متى وأين يعلن قراراته التي تنجح في جعل الحزب محطّ انتباه الجميع، وهو في ذلك يشبه كثيراً المخزن.
التعديل الحكومي جاء أيضاً في زمن سياسي يحمل صدى ما انتهت إليه الانتخابات البلدية: حزب جديد يحقق التوقعات ويحصد أغلبية المقاعد ويبشر بأنه الحزب المنتظر الذي سيغيّر الخريطة السياسية في المغرب في أفق 2012، ويسار غير حكومي يشكو العديد من المتاعب الذاتية، وجمعيات مدنية راقبت الانتخابات وصرخت على ما شاب العملية من عيوب، إذ تأكدت مرة أخرى أصالة النفور بين الناخب وصناديق الاقتراع، واستعمال المال لشراء الأصوات، وملكية صنعت مرة أخرى الحدث، وهذا ليس غريباً، إذ هي توجد عمودياً وأفقياً داخل الممارسة السياسية، وتعيش عهدها الجديد بالدعامات الدستورية نفسها للعهد القديم. أو هي كما يقول الباحث محمد الساسي متشبثة بكل امتيازاتها ومناهضة لفكرة ربط القرار بصناديق الاقتراع وربط ممارسة الحكم بالمحاسبة، وبالتالي فهي لم تفتح الطريق لنقل نظام الحكم في المغرب من ملكية مخزنية رئاسية إلى ملكية برلمانية حداثية، رغم رفعها شعار المشروع الديموقراطي الحداثي.
فتحركات الملك المكثفة تمثل منافسة غير متكافئة مع الفاعلين السياسيين، وخاصة الفاعل الحكومي الذي يظهر كمجرد مساعد للملك ليس إلا. وكلما أصبح تحرك الملك سلوكاً يومياً ومستمراً، انخرط في قيمة الملكية التنفيدية وابتعد بالضرورة عن مطلب الملكية التي تسود ولا تحكم. فمحمد السادس، كما ذهب إلى ذلك السوسيولوجي محمد الطوزي، يعطي انطباعاً بأنه يقتسم التفكير في طريقة الحكم مع باقي الفاعلين دونما أن يكون الاقتسام فعلياً. والواقع أن النخب السياسية نفسها مرتاحة إلى هذا الوضع، فأغلب الأحزاب، وخاصة المشاركة في الحكومة، تقول إنها تطبّق برنامج الملك.
لكن ما هو برنامج الملك، إن لم يكن تلك الأجندة التي تجري خارج النقاش السياسي وخارج المؤسسات المنتخبة، منخرطة أكثر في المبادرات الملكية الفردية.
استطلاع للرأي بشأن الملك وعهده الجديد أجرته مجلةtel quel أظهر أنّ % 91 من المغاربة يرون العشرية الأولى من حكم محمد السادس إيجابية... ومع ذلك منع عدد المجلة الذي يحمل نتائج الاستطلاع، كذلك منعت جريدة لوموند الفرنسية، التي نشرت بدورها نتائج الاستطلاع، من دخول المغرب، وأثبت العهد الجديد أنه والصحافة المستقلة في نفور مستمر، وأن الملكية مقدسة ولا يمكن أن تكون موضوعاً للاستطلاع، والملك فوق أي محاسبة رغم انخراطه في العملية السياسية... وتبخّر حلم دستور يؤسس للعهد الجديد بملكية برلمانية. والسؤال: كيف يمكن ملكية أن تنجح في الانتقال نحو المنهجية الديموقراطية في ظل يسار حكومي أصبح ملكياً أكثر من الملك و«نخب اقتصادية وسياسية ضعيفة تربّت على الطاعة وتعودت نوعاً من الانضباط؟ سنوات طويلة من الخدمات والمواجهات ومن الوصول إلى الحد الأقصى، علّمت هذه النخب الوقوف عند الحد، وعلّمت الفاعلين السياسيين الارتشاء والتحايل والوقاحة»، على حدّ تعبير الأمير مولاي هشام في مقاله الأخير المقارن بين الملكين، فكلاهما قام «بتحرير متقدّم مع الاستمرار في رفض الانتقال نحو تعاقد اجتماعي جديد وممأسس».
* صحافية من المغرب