عبد العلي حامي الدين *عشر سنوات من الحكم في ظل دستور يعود إلى سنة 1962، عُدّل أربع مرات في سياقات سياسية مختلفة ليعبّر عن إرادة الجالس على العرش، وليستقر في شكله الحالي منذ تعديلات 1996. وهو يعبّر في نهاية المطاف عن نظام سياسي قائم على ملكية تنفيذية ذات طابع رئاسي، تهيمن على جميع المؤسسات، وترجع إليها الكلمة الأخيرة في اتخاذ القرارات المهمة للدولة المغربية.
هناك شبه إجماع على أن المغرب دخل منذ 23 تموز / يوليو 1999 مرحلة جديدة حملت مجموعة من العناوين البارزة والإنجازات المختلفة، التي لم تكن دائماً في مستوى انتظارات المغاربة وتطلّعاتهم.
فعلى مستوى الإنجازات:
ــ دُشّن مسلسل الإنصاف والمصالحة، والنظر في الانتهاكات الجسيمة التي عرفها المغرب منذ 1956 إلى 1999، وجبر الضحايا، وكُشف عن جزء معتبر من حقيقة الاعتقالات التعسفية والاختفاءات القسرية.
ــ أقرّت مدونة الأسرة والاعتراف القانوني بمجموعة من الحقوق التي لم تكن في السابق.
ــ انطلقت مجموعة من الورش الاقتصادية الكبرى التي تعلّقت بالبنية التحتية والمشاريع المهيكلة الكبرى.
ــ حدث انفتاح إعلامي واضح، لم يستقر بعد سلوكاً راسخاً للدولة تجاه حرية التعبير. ولا يزال هناك سقف من الإكراهات والممنوعات التي تعرقل قيام الصحافة والإعلام بوظائفهما الطبيعية في المجتمع الديموقراطي.
أما انتظارات المغاربة فتتطلّع إلى قضايا أخرى:
ــ دستور ديموقراطي يعيد الاعتبار إلى المؤسسات التمثيلية عبر مراجعة خريطة توزيع السلطة، وتوفير الآليات الناجعة لمراقبتها ومحاسبتها، ويسمو بالمؤسسة الملكية من موقع الفاعل المباشر إلى موقع الحكم بين الفاعلين، الذي يحتفظ بمسافة واحدة مع الجميع، ويتوافر على آليات التحكيم الضرورية باعتباره رمزاً لوحدة البلاد وضامناً لممارسة الحقوق والحريات فيها.
ــ إصلاح القضاء وتحقيق استقلاليته عن السلطة التنفيذية وعن «لوبي» المصالح والارتقاء به إلى سلطة حقيقية فوق الجميع، وتحرص على مصالح الجميع، في إطار سيادة القانون ولا شيء غير القانون.
ــ توفير تعليم عمومي منتج، وكسب رهان الجودة فيه وذلك عبر إعادة النظر في مؤسساته ومناهجه وتوفير الشروط الضرورية الكفيلة بتنزيل برامج الإصلاح.
ــ الحدّ من الفساد المالي والإداري ومحاصرة ظاهرة الرشوة وتعزيز أدوات الرقابة والشفافية ووضوح مسالك صرف المال العام.
ــ الحدّ من الفقر، وتوفير حد أدنى من العيش الكريم، ومحاولة ردم الهوة الساحقة بين الأغنياء الذين يزدادون غنى، والفقراء الذين يزدادون فقراً ويكتوون بغلاء الأسعار وارتفاع كلفة المعيشة.
إنّ التقويم الذي أُنجز لهذه المرحلة ينتهي إلى خلاصات متعددة، من أبرزها أن العشرية الأخيرة مليئة بالمفارقات والتناقضات. فما تحقق في مجال التنمية الاقتصادية رافقه تراجع واضح في مجال التنمية الاجتماعية، واتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء، وتقلص الطبقة الوسطى. كما أن الشجاعة التي فتح بها ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان لم تعقبها شجاعة موازية لإغلاقه إلى الأبد، ووضع الآليات الضرورية لمنع تكرار ما حصل في الماضي، وذلك عبر تفعيل توصيات «هيئة الإنصاف والمصالحة» القاضية بضرورة إقرار إصلاحات مؤسساتية عميقة، وإصلاح القضاء، وإصلاح نظام الشرطة والسجون، وتحقيق درجة من الحكامة الأمنية تمنع انتهاك حقوق الإنسان في مخافر الشرطة وتنهي مرحلة المعتقلات السرية التي يُستنطق فيها المتهمون في ظروف غير قانونية، وتُنتزع فيها الاعترافات بواسطة التعذيب، وخاصة بالنسبة إلى الملفات المرتبطة بمكافحة ما يسمّى الإرهاب.
من بين الأسئلة التي باتت تُطرح في العديد من مناسبات تقويم الوضع السياسي العام في المغرب: هل نموذج التنمية «من فوق» الذي يجري اعتماده إلى حدود الساعة، سيكون على حساب المؤشرات الديموقراطية؟ وهل دخلنا مرحلة يتبنى فيها المغرب معادلة التنمية من دون ديموقراطية؟ من المؤكد أن الخطاب الرسمي يرى أن لا تراجع عن اعتماد الخيار الديموقراطي، لكن من المؤكد أيضاً أن جميع المؤشرات المرتبطة بالديموقراطية تعرف تراجعات مقلقة. فالانتخابات لم تخرج عن سياق الضبط والتحكم رغم تراجع أسلوب التزوير المباشر، وذلك بالاحتفاظ بثُغَر التقطيع الانتخابي والتلكؤ في مراجعة اللوائح الانتخابية، واعتماد نمط اقتراع لا يقطع مع خيار البلقنة، والحرص على عدم اعتماد بطاقة التعريف الوطنية في التصويت. والأخطر من هذا كله هو الاستمرار في اعتماد قاعدة «الحزب الأغلبي» الذي يتأسس عشية الانتخابات ويحصد المرتبة الأولى من حيث النتائج، وتوكل إليه مهمة التصدي للمعارضة والتشويش على خطاب التحول الديموقراطي الحقيقي.
وهذه ظاهرة مرضية لازمت الحياة السياسية المغربية منذ عهد الملك الراحل الحسن الثاني، وذلك في سياقات سياسية مشحونة بالتوتر وبالصراع على السلطة بأدوات غير عقلانية. أما اليوم، فيعاد إنتاجها بطريقة بائسة في سياق سياسي مختلف باتت فيه المؤسسة الملكية تحظى بإجماع غير مسبوق في تاريخ الحياة السياسية المغربية، وبات فيه جميع الفرقاء السياسيين يسلّمون بمشروعية النظام الملكي ويطرحون البدائل من داخله لا من خارجه، ولم تعد أقصى تيارات المعارضة تؤمن بمقولة «لا صلاح لهذا النظام إلا بزواله»، كما كان «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية» يقول في السابق.
من أبرز تحديات المرحلة المقبلة هو أن تثبت الدولة في أعلى تجلياتها حيادها الإيجابي في التعاطي مع الفرقاء السياسيين، وتحتفظ بهيبتها التي تجعل منها ملاذاً للتحكيم والفصل بين الجميع، وأن لا تعطي الانطباع بأنها تدعم هذا الحزب أو ذاك، لأنه ليس في مصلحة المغرب أن يعيد إنتاج أخطاء الماضي بإخراج جديد. كما أن النوايا الطيبة التي تمّ بها الحديث عن إصلاح القضاء خلال العشرية الأخيرة، استنفدت أغراضها وأصبح المغاربة يتطلعون إلى إجراءات ملموسة تعيد إليهم الثقة بالعدالة التي تكون مستأمنة على حقوقهم وعلى مصالحهم وعلى ثرواتهم، على قاعدة المساواة أمام القانون بين الجميع.
* باحث مغربي وعضو المجلس الوطني
في حزب العدالة والتنمية