strong>سعد الله مزرعاني *ولّدت مواقف رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط، في الثاني من آب الجاري، اعتقاداً لدى البعض بإمكان بناء تحالف جبهوي شبيه بما كانت عليه «الحركة الوطنية» اللبنانية في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي. أشرنا في مقالين سابقين في «الأخبار» (في 7 و14 آب الجاري) إلى أنّ أهمية التحوّل الجنبلاطي لا تكمن في هذا الميدان، وإن كانت تخدمه موضوعيّاً، بهذه الدرجة أو تلك. ورغم ذلك، يجب التقاط أمر جوهري في ما عُلّق من آمال على التحوّل الجنبلاطي: إنّه ضرورة قيام إطار جبهوي يأخذ لنفسه مكاناً وموقعاً ودوراً طال انتظاره على صعيد «القوى اليسارية» خصوصاً، والقوى والاتجاهات والشخصيات «الديموقراطية» عموماً.
بشكل من الأشكال، يمكن القول اليوم إنّ هذا الإطار الموعود الذي كان مطلباً «خاصّاً»، قد بات مطلباً عامّاً، من زوايا عدّة. لقد بلغ الاستقطابان الداخلي والخارجي، على تداخل وتفاعل وتناقض، مداهما الأقصى. ولقد انكشف أيضاً، وأكثر من أيّ وقت مضى، عجز القوى والبرامج المتصارعة منذ الاستقلال إلى اليوم، عن إكساب لبنان العناصر الضرورية للبنيان الوطني والدولتي، واللبنانيين المقوّمات الأساسية للتوحّد في بنية مجتمعية مستقرّة وحصينة ومتماسكة.
ولا خروج من المأزق اللبناني المتفاقم، في نطاق النظام السياسي الراهن. لا بل إنّ الخروج من هذا المأزق، قد بات مشروطاً بالتخلّص من هذا النظام، وخصوصاً من أحد أهمّ مرتكزاته وهو الطائفية السياسية. والطائفية السياسية ليست مجرّد نصّ دستوري يمكن إسقاطه عبر تعديل في البنود الدستورية ذات الصلة. إنّه نظام شبه متكامل، تتشعّب وتترسّخ عناصره في نسيج حياتنا وعلاقاتنا الداخلية والخارجية، إلى مستويات بتنا نظنّ وكأنّ اللبنانيين من طينة أخرى، هي حصرياً الطينة الطائفية والمذهبية، أو كأنّهم بالتكوين، مفطورون على الارتباط بالخارج أو الارتهان له!
لا يعني ذلك اعتماد المقاربات السهلة والسطحية في التعامل مع الظواهر السياسية ـــــ الاجتماعية كظاهرة الطائفية. وهو لا يعني على الإطلاق، أيضاً، عزل العنوان الإصلاحي هذا، عن عناوين الصراع الأخرى الماثلة في المجالين المحلي والإقليمي (والدولي)، ولا كذلك عزل هذه جميعاً عن التناقضات القائمة في الميدان الاقتصادي ـــــ الاجتماعي.

على مشروع الجبهة المأمولة أن يكون ثلاثي الأبعاد: إصلاحي واقتصادي اجتماعي وتحرّري

يشير ما تقدّم إلى أنّ برنامج العمل الوطني المنشود، إنّما هو ثلاثي الأبعاد: البعد الإصلاحي عبر إقامة نظام لاطائفي يؤمّن المساواة والحرية وتكافؤ الفرص (ما أمكن). والبعد الاقتصادي الاجتماعي لجهة السعي لبناء عناصر عدالة اجتماعية يجري عبرها تحرير حاجات الإنسان الأساسية من الجشع والاحتكار. والبعد التحرّري، وهو أيضاً بُعدٌ مهمّ جدّاً، حيث إنّ منطقتنا تتعرّض باستمرار لأشكال من العدوان والتدخلات التي تستهدف ثرواتها وأسواقها، وصولاً إلى سيادة بلدانها ووحدة هذه البلدان.
في تجربة العمل الوطني اللبناني الأبرز، وهي تجربة «الحركة الوطنية اللبنانية»، كانت هذه العناوين قائمة ومتداخلة ومتكاملة، بهذا الشكل أو ذاك. وفي نطاق تفعيل تلك التجربة، برزت صيغ ومؤسسات وأطر عمل ونشاط شملت الحقول الثلاثة جميعاً. نتذكر في هذا الصدد النضالات الاجتماعية التي خيضت بشكل مشترك في المجال الاقتصادي ـــــ الاجتماعي وما ارتبط بذلك من تنامي المؤسسات النقابية العمالية والتربوية بين المعلمين والطلاب والتلامذة... نتذكّر أيضاً النشاطات الكبيرة التي انطلقت تحت العنوان التحرّري في المديَيْن الوطني والقومي، وصولاً إلى إنشاء «الجبهة العربية المشاركة في الثورة الفلسطينية»، ومن ثمّ خوض معركة الدفاع عن القضية الفلسطينية وثورتها في وجه محاولات التصفية على النمط الأردني (أيلول الأسود عام 1970).
ونتذكّر كذلك إقرار «البرنامج المرحلي للإصلاح السياسي» الذي اعتمدته الحركة الوطنية كبند أوّل وأساسي في برنامج إصلاحي أشمل يتناول أيضاً الإصلاح الاقتصادي ـــــ الاجتماعي الذي كانت قد أُنشئت من أجله اللجان ولم يُستكمل بسبب اندلاع الحرب الأهلية عام 75.
لسنا هنا بصدد الترويج لتكرار تجربة سابقة. لكنّنا مطالبون بضرورة استعادة عناصرها الأساسية لتَلمّس حضورها وتأثيرها في خريطة الصراع والتناقضات المتعدّدة الفاعلة في يومنا هذا. ولا شكّ أنّ في القديم الكثير ممّا سيكون ماثلاً في أيّ تجربة جديدة تستحقّ أن تنشأ وأن تُبذل من أجلها الجهود وتُعلّق عليها الآمال. نعني بذلك حضور البنود المذكورة آنفاً: أي الإصلاح السياسي، والعدالة والتنمية، والمشاركة في مواجهة مشاريع غزو المنطقة للسيطرة والهيمنة عليها من قبل الصهاينة والإمبرياليين الجدد والقدماء.
تتداخل هذه العناصر في ما بينها. وهي كذلك تخضع لمبدأ الأولوية حسب المراحل واحتدام الصراعات والتناقضات في حقل من الحقول أكثر من سواه. لكنّ ذلك لا يعني إسقاط عنوان أو أكثر من العناوين الثلاثة، بذريعة أولوية أحد هذه العناوين. الأولويات طبيعية ومرحلية، لكنّ البرنامج المنشود يجب أن يتبلور، ولو تباعاً، في نطاق مترابط من القضايا السياسية والاجتماعية والتحرّرية على ثبات واستمرارية لا جدال فيهما من حيث المبدأ، وعبر توفير التراكم الضروري في النضال والنشاط والممارسة من أجل تجسيد هذا المبدأ أو المنطلق.
والبناء الجبهوي المنشود هو عملية خلق ونشوء جديدة، لا مجرّد عملية تجميع، رغم أهمية التجميع في إكساب المشروع مصادر وعناصر مشروعية وقوة، وخصوصاً في البدايات. والهدف من ذلك ليس فقط إضفاء طابع الجديد على المشروع، بل أساساً، إشعار كلّ المشاركين في مراحل التأسيس أو بعد ذلك، أنّهم يشاركون في بناء تجربة جديدة، لهم حقّ وعليهم واجب ومسؤولية، المساهمة في إكسابها البعد التاريخي الضروري، بما هي نشاط ومشروع يساري وديموقراطي، بمقدار ما هي أيضاً حاجة وطنية وإنقاذية للبنان واللبنانيين.
أين تقع نقطة البداية؟
يحاول عديدون الآن، ومن منطلق الرغبة الصادقة ولا شك، إجراء حوارات واقتراح صيغ وأطر. لا بدّ في هذا الصدد من استعادة بعض إيجابيات تجربة «التجمّع الوطني للإنقاذ والتغيير» الذي نشأ في مجرى صراع كانت تتلبّد به سماء لبنان والمنطقة وما لبث أن انفجر على أوسع نطاق في الغزو الأميركي للعراق عام 2003 وفي العدوان الصهيوني على لبنان عام 2006 وما بينهما وما بعدهما حتى يومنا هذا.
شكّل «التجمّع» الذي استمرّ نحو سنتين (2003 ــ 2004)، محطة مهمّة لم تُستكمل لأسباب موضوعية وأخرى ذاتية. لكن في تجربته الكثير ممّا يجب الاستفادة منه: المساواة في العضوية. البرنامج ذو الأبعاد الإصلاحية والتحرّرية. إطار المتابعة الذي تنوّع في البداية على نحو مثير قبل الانكفاءات التي تلاحقت فصولها بسبب احتدام الصراع والاستقطاب في لبنان والمنطقة من جهة، وبسبب الأخطاء الذاتية من جهة أخرى.
نقطة البداية إذاً، في لقاء تأسيسي يطلق عملية التحضير. وهي عملية يجب أن تشتمل على إنجاز مشروع المادة البرنامجية من جهة، وبلورة الإطار التنظيمي من جهة ثانية. إثر ذلك يجب أن ينعقد لقاء وطني لنقاش وبلورة الخلاصات التأسيسية. وطبيعي أن تنبثق عن هذا اللقاء لجنة متابعة تتولّى إقامة الهياكل الأساسية التي سيتركّز عليها «المؤتمر الوطني» الذي سيشكّل الخطوة الحاسمة في مأسسة المشروع الجديد وشرعنته.
كم يحتاج ذلك من الوقت؟ بضعة شهور. ابتداءً من شهر أيلول المقبل وحتى نهاية العام، للمرحلة الأولى التأسيسية، ونحو ثلاثة أشهر أخرى، للمرحلة الحاسمة وهي التي تُتوَّج بعقد المؤتمر الوطني كما ذكرنا.
يطرح ذلك عشرات الأسئلة بالتأكيد حول الجهة المبادرة: إنّه فريق المهتمين بالتأكيد، وكذلك القادرون على إنجاز المشروع في صيغته الأوّلية التحضيرية.
قلنا إنّ هذا المشروع هو حاجة وطنية. لكنّه في الأساس، حاجة أكثر من مصيرية وإنقاذية أيضاً، لكلّ المشاريع والمنابر اليسارية والديموقراطية (بالمعنى العميق للكلمة) التي ما زالت قائمة.
من هنا، يصبح العمل المسؤول والجدي في بلورة هذا المشروع مهمّة وطنية بكلّ ما تختزنه هذه الكلمة من معانٍ إيجابية لا بدّ من أن نحاول وأن نبدأ.
* كاتب وسياسي لبناني