نزار صاغيّة *بتاريخ 15 تموز 2009، أعلن مجلس شورى الدولة عدم اختصاصه للنظر في الدعوى المقدمة من مواطن لبناني بإلزام وزارة الداخلية بشطب قيده الطائفي، وذلك بحجة أن المحاكم العدلية هي المرجع المختص للنظر في دعاوى النفوس. وكانت الدعوى قد قُدمت في أواخر 2007 وباتت دون موضوع بعدما شطب المدعي قيده سنداً إلى التعميم الصادر عن وزير الداخلية (شباط 2009).
وموضوع نقدي للقرار ليس أن المجلس رفع يده عن الدعوى، إنما على نقيض ذلك، أنه أصر على تبيان وجهة نظره بشأنها تجاوزاً لقواعد اختصاصه. فكأنما ثمة ضرورات تبيح المحظورات! ولعل أغرب ما في الأمر أن هذا الرأي الذي حمل توقيع رئيس مجلس شورى الدولة (شكري صادر) جاء مناقضاً تماماً، مئة في المئة، لرأيه السابق يوم كان رئيساً لهيئة الاستشارات والتشريع (2007) والذي صدر تعميم الداخلية بناءً عليه.
فبخلاف الاستشارة التي أعلنت حرية المعتقد، حرية الانتماء واللاانتماء، حرية التصريح واللاتصريح، وبالنتيجة حرية شطب القيد الطائفي، تضمن القرار حيثية لافتة مفادها الآتي: «إن الحرية الدينية في لبنان مرتبطة بالنظام الطائفي الذي يفرض على كل لبناني أن ينتمي إلى طائفة من طوائفه الرسمية، فلا يبقى طليقاً في حياته الاجتماعية والسياسية خارج الإطار الطائفي الذي ولد فيه أو انتسب إليه، باعتبار أن حرية المعتقد تستتبع اعتراف القانون اللبناني بحق الفرد في تغيير دينه ومذهبه ومعتقداته (مع الإشارة إلى أن أنظمة الأحوال الشخصية عند المسلمين لا تجيز للمسلم تغيير دينه)،
أما مسألة شطب الدين كلياً من سجلات النفوس، فمقيدة بقيود لا يمكن تجاوزها في لبنان، نظراً إلى خصوصية وضعه في تعدد المذاهب (18 طائفة)، فضلاً عن اعتبارات أخرى لها علاقة بأمن المجتمع وبالوحدة الوطنية وميثاق العيش المشترك وبتجذر النظام الطائفي وتمسك اللبنانيين بمعتقداتهم الدينية. وقد وضع «الشورى» هذه الحيثية بعدما رأى أن الحرية المعلنة في المواثيق المذكورة وفي الدستور ليست مطلقة، بل هي قابلة للتقييد بموجب «قانون» على ضوء الفقرة «ج» من مقدمة الدستور والمادة 9 منه، «على أن لا تتجاوز الحدود التي يضعها المشرّع ما هو ضروري لحماية بقية الحقوق والحريات وأهداف المصلحة العامة وموجب احترام الغير».
فما عدا ما بدا؟ وما هي الضرورة القصوى التي دفعت مرجعاً رفيعاً بهذا المستوى، في قضية بهذا الحجم، إلى نسف منطلقاته ومبادئه المعلنة واعتناق ما يناقضها تماماً، كل ذلك في غضون ما يقارب سنة ونصف سنة؟ هذا ما سيحاول هذا المقال الخوض فيه، بحيث أعرض بداية أوجه الاختلاف بين رأيي الهيئة والشورى، وصولاً إلى تقويمه.

في عرض أوجه الاختلاف

انطلاقاً من مقارنة الحيثية أعلاه مع استشارة الهيئة، جاز استخلاص الفوارق الآتية: أولاً، إن الشورى عدّ حرية المعتقد حرية قابلة للتقييد بموجب قوانين ضمن ضوابط تحكمها الضرورة. وهو بذلك خالف تماماً هيئة الاستشارات وتعميم الداخلية اللذين أكدا إطلاق هذه الحرية على أساس المواثيق الدولية. بل إن الشورى لم يجد حرجاً في الإحالة إلى نصوص لها معانٍ مختلفة تماماً عما

رئيس مجلس الشورى أطلق موقفاً مفاده حرمان المسلم من حق تغيير دينه وهو موقف غير مسبوق

أراد افتراضه بمنأى عن أي تعليل. وهذا ما نقرأه في الإحالة إلى الفقرة «ج» من مقدمة الدستور التي نصت حرفياً على أن «لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد...»، وأيضاًَ في الإحالة إلى المادة 9 من الدستور التي نصت حرفياً وقبل أي شيء آخر على أن «حرية الاعتقاد مطلقة». فأين الإشارة إلى تقييد الحرية في هاتين المادتين؟ بل هذا ما نقرأه أيضاً بوضوح كلي في تتمة المادة 9 حيث جاء أنها تضمن «للأهلين تنظيم أحوالهم الشخصية وفق معتقداتهم»: فإذا ضمنت هذه العبارة للبنانيين العيش وفق معتقداتهم مهما بلغ حجم الطائفة التي ينتمون إليها (في مواجهة أي أكثرية)، فإنها تضمن لهم بالطبع وحكماً عن طريق الاستدلال العكسي، أن يبقوا بمأمن عن أي تنظيمات تخالف معتقداتهم، مما يتنافى هنا أيضاً مع أي قيد لهذه الحرية (وأيضاً في مواجهة أي أكثرية). هذا مع العلم بأن قراءة «الشورى» تصطدم بشكل كامل مع الفقه الدولي في مجال حقوق الإنسان الذي يصنف حرية المعتقد (من خارج إقامة الشعائر الدينية في الأماكن العامة) ضمن الحريات غير القابلة لأي قيد أو استثناء مهما كانت الظروف المحيطة.
ثانياً، إن «الشورى» رأى أن التنظيمات الطائفية الحاضرة، تشكل بحد ذاتها قيوداً قانونية على حرية المعتقد. فأن تكون بعض الحقوق الاجتماعية أو السياسية مرتبطة بالانتماء الطائفي، يجعل اللبناني (كل لبناني) ملزماً بالانتماء إلى إحدى طوائفه الرسمية للاستفادة منها، فلا يبقى «طليقاً»! وهذا القول يتعارض هو الآخر تماماً مع الاستشارة التي رأت أن التنظيم الطائفي ربما يؤثر على بعض حقوق المواطن المرتبطة بانتمائه الطائفي من دون أن يؤثر بحال من الأحوال على حرية المعتقد، وتالياً على حرية الانتماء أو اللاانتماء إلى طائفة: فبإمكان الفرد أن يضحي بحقوق اجتماعية معينة تمسكاً بمعتقده من دون أن يكون للمجتمع أن يلزمه بالانتماء قسراً إلى طائفة ضماناً لهذه الحقوق. لا بل إن «الشورى» بدا في هذا المجال في تعارض مع ذاته إلى حد العبثية: فكيف جاز استنتاج تقييد حرية أساسية في مصاف حرية المعتقد من دون الاستناد الى أي قانون صريح بهذا الشأن، خلافاً لما سبق وأكده في متن الحيثية نفسها المبينة أعلاه؟ بل أكثر من ذلك، كيف جاز ذلك في ظل قوانين تكرس صراحة حق المواطن باللاانتماء إلى طائفة وتفرض على الدولة وضع قانون مدني للأحوال الشخصية ضماناً لحقوقه كما يتأتى من القرار 60 ل/ ر الصادر منذ 1936؟ وألا يظهر بنتيجة ذلك أن الاستنتاج المذكور استند ليس على المنظومة القانونية، بل على قراءة خاصة تصوّر الأمر الواقع المتمثل بإحجام الدولة عن وضع قانون مدني، وتالياً باعتدائها على حقوق الخارجين عن الطوائف على أنه قانون؟
ثالثاً، بعدما أعلن الشورى إلزامية الانتماء، لم يجد صعوبة في إعلان إلزامية التصريح عن هذا الانتماء لأسباب عدة، أهمها «خصوصية الوضع اللبناني وتعدد المذاهب (18 طائفة)، والاعتبارات المتصلة بأمن المجتمع وبالوحدة الوطنية وميثاق العيش المشترك وبتجذر النظام الطائفي وتمسك اللبنانيين بمعتقداتهم الدينية». وبذلك ناقض هنا أيضاً استشارة الهيئة التي رأت أن عدم التصريح عن المعتقد أو الانتماء (سواء انوجد أو لم ينوجد) نتيجة طبيعية لحرية المعتقد.
وأسوأ ما في الحيثية في هذا الخصوص، هو أن «الشورى» لم يبنِ موقفه على اعتبارات الاستقرار القانوني، التي تفرض تحديد الانتماء الطائفي عند وجوده، بل استرسل في استحضار كلمات كبيرة كأمن المجتمع أو الوحدة الوطنية والعيش المشترك، من دون أي محاولة لإظهار الرابط بينها وبين التصريح عن الانتماء. فكأنما استحضار كلمات بهذا الحجم كافٍ بحد ذاته لإثبات ما يريد افتراضه!
ولعلّ أول ما يخطر للمرء عند قراءة كلمات مماثلة أن «الشورى» يرى بأن تصنيف المواطنين في سجلات الدولة، وبوضوح، ضمن خانات طائفية هو شرط أساسي للوحدة وللأمن وللعيش المشترك، فيما يشكل أي خرق لذلك تهديداً لهذه الأمور قاطبة وأن هذا الاعتقاد راسخ لديه رغم الأدلة الواقعية المحيطة والتي كلها تؤكد (وعلى الأقل توحي الفقرة «ب») عكس ذلك. ولربما قصد «الشورى» في هذه الحيثية أن عدم التصريح عن الانتماء الطائفي أي إخفاءه يضيّع «الشنكاش»، بحيث يصعب إذذاك معرفة انتماءات المواطنين (الناخبين) وتالياً أوزانهم وتوجهاتهم. وهو جهل يصعب معه احترام الموازين ووضع خطط مسبقة، ما يؤدي ربما إلى الفوضى والاقتتال!
أما تذرعه بتمسك اللبنانيين بمعتقداتهم الدينية لتبرير تسجيل بعضهم في خانات الطوائف ولو خلافاً لمعتقداتهم، فهو يصطدم تماماً بمبدأ «حرية المعتقد». أليس مبرر إعلان هذه الحرية (بل أي حرية عامة) قبل كل شيء ضمان هامش تحرك للفرد بمعزل عما تريده الأكثرية، وأحياناً تحديداً في مواجهة ما تريده؟
رابعاً: وأخيراً، تجدر الإشارة إلى الملاحظة الواردة عرضاً وبين قوسين ومن دون تعليل في قرار «الشورى»، ومفادها أن «الأحوال الشخصية عند المسلمين لا تجيز للمسلم تغيير دينه»، وذلك من باب إعلان حدّ آخر لحرية المعتقد، مفاده منع المسلمين من تغيير الدين على نحو يشكل قفزة هائلة إلى الوراء في هذا المجال. فما الذي حدا المجلس إلى إعلان موقف مماثل؟ ونقرأ العبارة مرة وعشرات المرات، ونحك أعيننا مرة وعشرات المرات، للتأكد من ورودها في متن القرار. فهل يجهل «الشورى» أن حق المسلمين بتغيير دينهم مكرس قانوناً وواقعاً، وأنه يحصل دائماً منذ عقود في سجلات الدولة؟ أم هو يتنبأ بمستقبل يعاد فيه العمل بأحكام «الارتداد»؟ هذا ما أردت قوله بشأن الاختلاف بين رأيَي الهيئة و«الشورى»، بقي أن أحاول تقويمه.

في تقويم الاختلاف

هنا، بمعزل عن مدى صوابية أي من الرأيين، فإن استعراض الفوارق يظهر أنها جذرية ولا تقتصر على سهو عن مادة أو قاعدة قانونية معينة (وهذا أمر قد يحصل)، بل هي تعكس تبايناً عميقاً وتالياً رؤية ضبابية متقلبة بشأن أصول هذا النظام ومبادئه الأساسية، لدى رئيس مجلس شورى الدولة، أي لدى المرجع الذي يفترض به أن يكون الأكثر علماً بهذه الأصول والمبادئ وإدراكاً لها.
ومن الناحية العملية، السؤال المشروع الذي يتبادر إلى الأذهان، وهو يبقى حكماً ضمن حدود النقد المباح: كيف أمكن لمن يتولى حالياً أعلى منصب قضائي مختص في مساءلة الإدارة ومحاسبتها، أن يعلن، ومن خارج اختصاصه، مواقف ورؤى اجتماعية مناقضة تماماً لمواقفه ورؤاه التي أعلنها حين كان يتولى مهمة توجيه الإدارة (كرئيس لهيئة الاستشارات والتشريع)، كل ذلك بناءً على فرضيات ومن دون استشعار أي حاجة لتوضيح أسباب انقلابه على ذاته؟ ألا يعكس ذلك استخفافاً بوزارة الداخلية التي عملت باستشارته، فإذا بها تجابه لهذا السبب بالذات، ومن قبله بالذات، اتهاماً ضمنياً بالمس بأمن المجتمع وبالوحدة الوطنية وبالعيش المشترك، فكأنما استهاب أن الوزير أخذ استشارته على محمل الجدّ وحوّلها إلى واقع فسارع إلى إصلاح الخطأ عند أول مناسبة؟ بل ألا يعكس ذلك استخفافاً بالناس الذين هلّلوا للاستشارة ورحبوا بها كباب لإقرار الحق والحد من هيمنة الطوائف، فإذا به ينسف كل ما جاء فيها بثقة متناهية بالكاد تترك مجالاً للجدل؟
لا بل إن رئيس «الشورى» لم يكتف بنسف الاستشارة وحسب، بل أطلق موقفاً مفاده حرمان المسلم من حق تغيير دينه وهو موقف لم تسبقه إليه على حدّ علمي أي هيئة قضائية. وهو بذلك، أعلن نفسه صاحب الموقف الأكثر التزاماً بحقوق الطوائف، بعدما كان له شرف اتخاذ الموقف الأكثر تقدمية في هذا المضمار.
أقل ما يمكن قوله إزاء تقلب مماثل، إن التعليل القانوني بدا في هذا المجال أقرب إلى أسلوب الخطابة منه إلى العدل. رحم الله سقراط!
* محامٍ وباحث في القانون