ضحى شمسفجأةً، تتوقف لك سيارة فارهة، مقفلة ومموهة الشبابيك. يأخذ السائق وقته بفتح شباكه الأوتوماتيكي مستطلعاً أثر «التكنولوجيا» على وجهك، كراكب سرفيس معتاد على سرفيسات «المانيفيل». حمرا؟ يقول لك أن تتفضل. تدخل، فيلفحك الهواء البارد. السرفيس مكيّف. سيدة في الداخل تتحدث بالإنكليزية على هاتفها الخلوي، ممررة أصابعها داخل خصلات شعرها الذي لا يزال مبللاً بدوشها الصباحي. يصعد بُعيد ذلك بقليل رجل كهل إلى جانب السائق. يتناسب شعره الأبيض وطريقة تصفيفه مع ما يبدو أنه عمره. تراهن نفسك أنه استخدم في تصفيفه «البريانتين»، معادل «الجل» أيام مراهقة أهلنا في الخمسينيات.
تبدو لك درجة البرودة داخل السرفيس أعلى مما يشير إليه زر التحكم المثبّت على «تابلو» السيارة. ربما لأنك فوجئت بكون سيارة السرفيس مكيفة. سرفيس ومكيفة؟ تقول في نفسك وتسأل: «كيف موفاية معو؟» تقصد السائق. فالتكييف، منطقياً، غير عملي للسرفيسات. لأنه أولاً مكلف، لكونه يصرف بنزين زيادة، وهو أمر لم يعد من الممكن احتماله بعد الارتفاع الجنوني لأسعار البنزين. وثانياً لأنه يجبر السائق على إقفال النوافذ، ما يحول دون سماع وجهة الركاب حين يحاذيهم. والسرفيسات تستعمل الزمور لسؤال الراكب عن وجهته. لا بل إن زمور المرسيدس خصوصاً، أصبح مرادفاً لسؤال: «لوين؟»، حتى تكاد ترتسم لسماعه في الهواء علامة استفهام داخل فقاعة، تماماً كما في القصص المصورة.
ينساب كلام الرجل الجالس إلى جانب السائق، خفيضاً هادئاً، كمن يحدّث نفسه: «جيت عالطيونة، ع مفرزة السير، حتى شوف هالمخالفة اللي عمل لي اياها. قال شو؟ صفيت (ركنت) سيارتي بمكان ممنوع! أصلاً مش ممنوع الصف بالمحل اللي كنت صافف فيه، ما في أي إشارة. بدك تقول نوع من السلبطة، ع أساس بلكي بدفعلو شي حتى ما يكتب زبط». تبدو نبرة الرجل غريبة على هذا النوع من التشكي.. تبدو.. مبردة. مكيفة. يكمل كلامه بصوته الخفيض، حتى تظنه، لو لم تسمع ما يقول، يغازل السائق الشاب. يقول: «كان مفكرني رح أتعب، قلتلو ع الحساب بدك تتلفنلي يا حضرة العميد؟ مش قلتلي انك رح تتصل فيني بعد ما تحقق بالشكوى؟ هوي مفكرني رح انسى، بس أنا رح ضل وراهم. متل ما قال الإمام علي: ما بيضيع حق وراه مطالب. طالما أنت بتطالب، إلا ما تاخذ حقك».
يسأله السائق وقد علقنا في زحمة سير بدأت من تحت نفق البربير راس النبع، وأطلقت «زلاعيم» كل زمامير السيارات دفعة واحدة: «شو بدك يعني يلغيلك الزبط؟ مش رح يلغيه». يجيبه الكهل وهو يشير إلى طريق جانبية نستطيع «الزوربة» منها للنفاذ من الزحمة: «لأ بدي يتربى الدركي اللي عمل لي المخالفة، ليك خود يمينك فيك تلفّ من هون تترجع عالبربير، كمان منشان ما يرجع يعمل هالشي بغيري. أصلاً هيدا الدركي من هودي المجندين، ما لازم يفلتوهم عالعالم. ما بيصير».
تعلو أصوات الزمامير على صوته فيتشوش الكلام: «قلتلو للعميد: شوف دفتر الزبوطة، يمكن عامل هالغلط بغيري. قال لي يمكن خطأ (...) مسلكي، قلتلو لأ، أكيد كان عارف حالو شو عم يعمل. وحياتك رح ضل وراه حتى يشيل الزبط». ثم يستطرد متحمساً، لكن بصوته الخفيض دوماً: «ليك كان إلي حق مع حاكم مصرف لبنان (!!) أيا؟ حاكم لبنان، ضليت وراه حتى أخذتو».
يفكر السائق قليلاً، ثم يقول: «ايه هيدا بالحق الفردي. هيدا فيك تاخذو ، بس كمجتمع؟ أعوذ بالله. ولا يمكن».
يتحمس الراكب قليلاً: «إذا هيك، ما بقى تفتحو تمكم على شي، كهربا، ضرايب، بنزين... لا يحق لكم الاحتجاج على شيء. حتى على الطقس».
يرد السائق الشاب وهو يخفض صوت عمرو دياب المنبعث من مسجل السيارة، وقد أخذ بالزوربة بين الشوارع الصغيرة: «أنا فردياً خيي آخذ حقي. متكيف مع المجتمع. بعرف شو اللي بيصير هون وشو اللي ما بيصير. مستحيل يصير منيح بلبنان. منشان هيك ما بسمع أخبار. وين في مسلسل، غنية.. بحطّ هالأركيلة عشية وتمام».
الراكب: «هلق هيه صعبة؟ لا شك. بس لو كل واحد بيعمل متلي كانت بتنحل. شوف مثلاً، كل النهار بيزنّو بهالإذاعات على راسك: يا مهاجرين ارجعوا، ويا مهاجرين ارجعوا. خيي مصيّف هون، كان حاجز ليرجع على أوستراليا بـ4 الشهر، قدم سفرو. سافر امبارح. مع أنو السايح بهالبلاد ملك. بيخالف، بيمشي عكس السير، ما حدا بيقللو شي...».
السائق: «أنا ماشي حالي. ما خصني، لا رح سافر ولا هاجر»، ثم يهتف فجاة: «أخ شو هاي؟». تتصدر إشارة ممنوع المرور رصيف الشارع الذي لم يعد هناك مناص من سلوكه أو العودة إلى الخلف. يتردد السائق في وقت لا يزال فيه الراكب يواصل كلامه: «اصطفل. بس أنا رح ضل حصّل حقي». ثم يهتف فجأة بالسائق: «ازمط ازمط أزمط، ما في حدا»، يدوس السائق دواسة البنزين فننجح باجتياز الشارع قبل أن تطل أي سيارة، وما إن نصل إلى الاتجاه المسموح حتى يلقي السائق إلى الراكب الكهل النظامي نظرة ساخرة لم تفت الأخير، فعلق بعد برهة صمت مثقلة بالمعاني «لو ما عملنا هيك، ما زمطنا من العجقة». يردّ السائق بابتسامة خبيثة: «ما بدك تقنع أيه؟