حسن خليل


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

هناك مادّة تُدرَّس لطلاب الرياضيات والإحصاءات في الجامعات اسمها «نظرية اللعب» (Game Theory). أكثر تطبيقات هذه المادة هي في رسم الاستراتيجيات العسكرية والسياسية، وعلاقة الغرب بالمناورة ضمن «لعبة الأمم». بكل ثقة، أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس ولادة «الشرق الأوسط الجديد». هي كانت عضواً فعالاً في فريق المحافظين الجدد برئاسة نائب الرئيس ديك تشيني. تسلّمت الجانب الدبلوماسي لترويج «العهد الذهبي»، بينما تسلّم وزير الدفاع إدارة العصا العسكرية.
الأدوات الاستخبارية كانت مؤلّفة من كارل روف وريتشارد بيرل ومن عاونهما. بكل وقاحة، كان للوزيرة السيّئة الذكر النفوذ لاستدعاء خمسة رؤساء أجهزة استخبارات عربية للاجتماع بهم متى تريد وأينما تريد. تصل إلى لبنان فتجمع أركان ثورة الأرز من أصغرهم إلى أكبرهم. كل «دول الاعتدال» انتظرت ساعة الفرج لضرب إيران وقلب النظام في سوريا ومن خلالهما القضاء على صرخات المقاومة.
كل هذا لم يحصل. تغيّرت الإدارة الأميركية ولم يعد أحد يسمع حتى عن نشاط اجتماعي لرايس وتشيني ورامسفيلد (سوى ما نشر على «يوتيوب» من إهانات تلقّاها من إحدى السيدات الموجودات في عشاء معيّن). بكلام آخر، واجهت قوى الممانعة من دول وحركات هذا المشروع وصمدت. فريق حاول أن يغيّر الواقع على الأرض ضد فريق آخر نجح في نصب الفخاخ له وأفشله. كل هذا جيّد ومعروف. ماذا بعد؟
تحوّل فريق الممانعة من موقع الدفاع عن وجوده إلى موقع الهجوم. «دول الاعتدال» لم تعد في صف واحد لأن المرشد الموجّه لها غاب. هدف الإدارة الأميركية الجديدة تحوّل من استراتيجية تعزيز مواقعها في «الشرق الأوسط الجديد» إلى استراتيجية تحديد الخسائر في النقاط الساخنة التي غطست فيها.
تكتشف مصر يومياً أنها لم تعد تستطيع أن تعتمد على هيبة ديموغرافيتها وجغرافيتها التي أوجدها عبد الناصر ودمّرها أنور السادات ولم يُعد بناءها حسني مبارك المنهمك في تثبيت بنود كامب دايفيد. السعودية تتخبّط بين محاولاتها بعناء أن تأخذ دور مصر السابق، الغائب منذ 30 عاماً، من جهة، وعدم قدرتها على أن تتبنى خطاباً عروبياً شاملاً. تحاول إرساء شعار المسافة الواحدة مع الجميع من دون نجاح. أصبحت التبعية السعودية دينية هدفها القضاء على فئات عربية أخرى تحت ستار الصراع العربي ـــــ الإيراني. الأردن لا حول ولا قوة له ما دام مشروع «الوطن البديل» ممكناً استحضاره دوماً. دول الخليج الأخرى تتسلّم التفاصيل من الصحافيين العاملين لديها.
بشار الأسد في طهران، وحسني مبارك في واشنطن. الأول ذهب لترسيخ معادلة جديدة تبنّاها المرشد الأعلى في إيران تقوم على «شرق أوسط جديد» قوامه إيران والعراق وسوريا ولبنان، جميعها متحالفة مع تركيا التي تعود إلى المنطقة من خلال الحداثة الإسلامية بعد أن خرجت كإمبراطورية عثمانية، فتركيا هي الوحيدة القادرة على إدارة التوازن بين عضويتها في حلف الناتو وموقعها في قلب العالم الإسلامي، وهي التي تتوق بشغف إلى الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن موقعها الاستراتيجي في نقل الغاز من شرق آسيا وإمدادها المائي إلى جوارها. أما الثاني فيذهب إلى واشنطن لعلّه ينجح في إقناع الإدارة الأميركية بالعودة إلى استراتيجية الإدارة السابقة، وإلا تعرّضت الهيبة الأميركية «لنكسة لا يمكن ترميمها». طبعاً الخوف الفعلي هو خسارة لمصر نتيجة الرهانات الأخيرة. هذا ما يفسّر محاولة مصر عرقلة الوفاق السوري السعودي الأخير، وعدم مباركتها الوفاق اللبناني لتأليف حكومة الوحدة الوطنية في لبنان.
هل فعلاً وليد جنبلاط وحده يقرأ؟ ببساطة لم يقرأ نجاح التحالف الجديد، لكنّه لمس فشل المشروع الأول. ذهب إلى واشنطن وشدّ بقوة في اتجاه قلب النظام السوري وضرب إيران المجوسية. فشل الرهان. إذاً ما الضرر في الاعتذار عن خطأ تقدير الموقف والتحول إلى مقلب آخر. احتمالان يقودهما تفكيره: فإذا تصعّد الموقف سلبياً بضربة عسكرية، فهو يريد أن يكون وطائفته على الحياد، لأن حجمها لا يسمح لها بأن تكون طرفاً، وإذا اتجهت الأمور إلى تسويات سياسية تُرجّح «ولادة جديدة للشرق الأوسط الجديد»، فهو يريد جني بعض الجوائز نتيجة تحوّله المبكر.
المقاومة تعرف ما تريد، ولا تزايد في ذلك.
باقي الأطراف اللبنانية، من دون استثناء، تعرف أنها كطبول ذات أصوات عالية. تتصرف كأنها جزء من الاستقرار الكوني، لكنّها تنتهي في مطالبتها بامتيازات في دولة البقرة الحلوب، من وزراء ونواب ومديرين عامين وقضاة ورؤساء مصالح ودوائر إلى حجّاب وشرطة بلدية. مناداة مستمرة بحقوق المسيحيين والمسلمين والحفاظ على الأقليات، وإلا تقوم الدنيا وتقعد إلى حدّ التهديد بإعاقة «التوافق الأميركي ـــــ الصيني».
لبنان كان ساحة نفوذ ولا يزال. لكن لماذا لا يعرف اللبنانيون حقيقة واقعهم السياسي وسياسييهم؟ وإذا ما أكمل هؤلاء السياسيون في التصرف كزعماء طوائف وقبائل، يصبح لبنان هامشياً أكثر في هذا المحيط المتخبّط. لا يلومنّ أحد من يقول هنيئاً لتركيا وإيران وسوريا.