عبد العلي حامي الدين *«فلسفة الوجود والجدوى، نقد ثقافة الحجر وبداوة الفكر» هو عنوان كتاب قيّم للدكتور بنسالم حميش، صدر عن المركز الثقافي العربي في طبعته الأولى عام 2004. كنت قد قرأت الكتاب بمجرد صدوره، وعندما عُيّن صاحبه وزيراً للثقافة، رجعت إلى تصفّح الكتاب من جديد، فوجدتني قد كتبت بعض التعليقات على هوامشه، وقلت في نفسي إنها مناسبة لاستعراض بعض أفكار الرجل، الذي يعبّر عن جيل من المثقفين والمفكرين، الذين قلّما أتيحت لهم فرصة خدمة شؤون الثقافة والمثقفين من موقع القرار السياسي، وعاشوا في «خصام» نظري وعملي مع السلطة، وهو خصام لم يكن إلا أحد تعبيرات علاقة المثقف بالسلطة، وخاصةً في الأنظمة التي خاصمت بدورها أطروحة الديموقراطية واستسلمت للأساليب السلطوية في الحكم. ولم تكن الاستثناءات القليلة التي مرت إلّا تأكيداً لقاعدة استبعاد المثقف من ممارسة السلطة، إلّا إذا كانت بغرض تطويع أفكاره لخدمة من يوجدون في أعلى قمة الهرم.
في بداية الكتاب المذكور، يمهّد بنسالم حميش لأفكاره بإطلاق صرخة قوية دفاعاً عن التحرر الفكري، وامتلاك الحس النقدي والجرأة على قول الحق واسترجاع ملكة السجال والحجاج، وممارسة الحق المشروع في النقد وحرية القول والتعبير، وحرية إعلان المغايرة والاختلاف.
ويستند الكاتب في مشروعية هذا الدفاع إلى العصور الذهبية للعرب والمسلمين، التي نهضت فيها المعارف في اللغة والتفسير والفقه، وفي الكلام والتصوّف والتفلسف وفي العلوم الطبيعية، وذلك بفضل ما يسمّيه «التناظر والجدال والسجال»، كما يستدل بالتجربة الغربية المليئة بالثنائيات والتقابلات المتسلسلة التي بدونها «ما كان للفكر في الغرب أن يكون له لحمة أو تاريخ».
إنّ القاعدة التي يسعى الكاتب إلى تأصيلها هي أن العلم والمعرفة لم يزدهرا إلا مع الجدل والسجال. ويسجل وجود ظاهرة اللاتواصل واللاسجال بين المثقفين العرب، ويرجعها إلى ثلاثة أسباب: سنة التهادن والتساكن بين المفكرين العرب وسكوتهم على نقد بعضهم لبعض، تضخم شعور المثقف المنتج بأناه، وبتميز وعيه وأهمية وظيفته، أو هوس العظمة الذي لا يقبل النقد ولا يستسيغ الأسئلة المعاكسة، والسبب الثالث يرجعه إلى سوء أحوال القراءة وتأزّم وظيفة النقد.

هل يمكن وزير الثقافة الكاتب بنسالم حميش أن يجمع بين فكره النقدي ومسؤولياته الجديدة؟

بعد هذا التمهيد، يخصّص الكاتب مقدمة الكتاب لاستعراض مفهوم الثقافة وواجبات المثقفين انطلاقاً من إسهامات العديد من المفكرين. وفي هذا السياق يقدم قراءة في كتاب «عن المثقفين والسلطة» لإدوارد سعيد، الذي يعدّه نموذجاً للكتابة المطلوبة بسبب طابعها السجالي الحي، ويقتبس منه بعض المقاطع التي تحمل دلالات معينة، من ذلك قوله «أن نقول الحقيقة للحكم لا يعني ممارسة مثالية على شاكلة بانجلوس: بل أن نفكر بعناية في البدائل، أن نختار أحسنها وندافع عنه بذكاء كلما أمكنها أن تسهم في التغيير الواجب إحداثه». وبمقتضى هذه الفكرة، أخذ إدوارد سعيد موقفاً صارماً من اتفاقية أوسلو عام 1993 وثابر على نقدها وفضح أساسها اللامنصف.
ولا يتردّد بنسالم حميش في تقديم بعض الانتقادات حول بعض أحكام إدوارد سعيد ومواقفه التي يراها متسرعة، مثل قوله إن «النظام الدولي الجديد» و«صدام الحضارات» ليسا سوى «خيالات عبثية»، ومثل موقفه من الأصولية الإسلامية الذي لم يأخذ في الحسبان أعمال خبراء ومتخصصين، كما يؤاخذ إدوارد سعيد على خلوّ مرجعيته البيبليوغرافية من الثقافية العربية باستثناء تلميح خاطف لأدونيس وعلي شريعتي. وأخيراً، يختلف معه في مفهوم المثقف حينما يقول «إن المثقف لا ينبغي أن يقول الحقيقة للسلطة فقط، ولكن كذلك للمجتمع».
ويستعرض الكاتب في مقدمته نماذج من مواقف بعض المثقفين في الغرب من قضايا محددة مثل دفاع سارتر عن استقلال الجزائر ووقوفه مع برتراند راسل ضد الحرب الأميركية على فيتنام، ومعارضة ميشيل فوكو لنظام الاعتقال الحبسي ووقوفه ضد الأسر في مستشفيات الطب العقلي، ودفاع إميل زولا عن الضابط الفرنسي اليهودي درايفوس المتهم ظلماً في 1894 بالتجسس لصالح ألمانيا في مرافعته الشهيرة «إني أتهم».
كما يستعرض بعض ضحايا ممارسة حرية القول والرأي أمام أجهزة السلطان في التاريخ الإسلامي مثل مالك ابن أنس وأبي حنيفة بسبب معارضتهما لطغيان الحجاج الوالي الأموي، وعسف الخليفة العباسي المنصور، ومعاناة ابن حنبل مع «محنة خلق القرآن» إلى جانب البويطي وابن نصر الخزاعي اللذين قادتهما تلك المحنة إلى التعذيب حتى الموت، ومواقف بعض المعتزلة الذين ماتوا بسبب دفاعهم عن حرية الإرادة وخلق الإنسان لأفعاله. كما يستعرض الكاتب واقع المثقفين العرب والمغاربة اليوم، ويتناول الصعوبات التي تعترض تأثيرهم في الواقع السياسي والاجتماعي، ومن بينها:
ــ ضعف القراءة المرتبط بالأمية والبطالة. ــ ظاهرة اللاتواصل بين المثقفين.
ــ التشرذم اللغوي، وهنا يثير موقع اللغة العربية في الثقافة الوطنية، ولا يتردّد في القول إننا إزاء وضع شاذ، إذ يقول القانون بدستوريتها وتأتي الأهواء والتحكمات عكس ذلك ونقيضه. «وهذا الوضع الشاذ لم تنفع في تقويمه مغربياً مذكرات حكومية بشأن إلزامية استعمال تلك اللغة في الإدارة، ولا بعض النداءات التي تصدر أحيانا من هنا وهناك». ــ الزمن السياسي المسيج بالمحظورات والمقدسات، الذي أصبح مطبوعاً بالانتظارية، وركب خطاباً حول التناوب التوافقي وأكثر منه: الانتقال الديموقراطي. وهو خطاب يخلق للسياسة ــ في نظر الكاتب ــ طقوساً ومقولات يستعصي على الفكر الحر التمادي في تقبّلها أو دعمها، اللهم إلا إذا قبل التنازل وتجرد عن وعيه النقدي والتاريخي، أو التقليل من اشتغاله. هنا، وبعيداً عن أي محاولة للإحراج، نستسمح الكاتب بصفته وزيراً للثقافة في القيام بتمرين سريع بشأن السجال والنقد، انطلاقاً من طرح بعض الأسئلة الاستباقية، وهو لمّا يستأنس بعد بوظيفته الجديدة: هل يمكن وزيرنا (الذي نتمنّى له كل النجاح في مهمّاته الجديدة) أن يجمع بين انتمائه إلى مدرسة الفكر النقدي الحر ومسؤولياته الجديدة التي تفرض قدراً لا يستهان به من الطقوس والمقولات التقليدية اللاعقلانية، والتي تمثّل عقبات حقيقيّة في طريق توفير شروط التقدم والنهضة والديموقراطية؟ أم سيختار التنازل والتجرد عن وعيه النقدي والتاريخي أو التقليل من اشتغاله؟
في الواقع إن تنازل المثقف عن قول الحقيقة للحكم أو للمجتمع في الوقت المناسب، يمثّل إعاقة مزدوجة للديموقراطية، لأنه يركب ركاماً من ضعف الثقة في السياسة وفي الثقافة معاً، يضاف إلى مسلسل من الإحباطات والهزائم النفسية بفعل خيبات الأمل المتكررة في النخب المثقفة التي تحملت مسؤولية تدبير الشأن العام ولم تحقّق ما كان منتظراً منها. والأخطر من ذلك أنها لم تصارح الرأي العام بأسباب فشلها، ولم تصدح بالعوائق الحقيقية التي اعترضت طريقها، مخلّفة وراءها العديد من الأسئلة والاستفهامات ذات الطبيعة الفكرية والفلسفية بشأن جدلية الفكر والواقع وحقيقة العلاقة بين التصور والممارسة.
* باحث، وعضو الأمانة العامة
لحزب العدالة والتنمية المغربي