سهيل الحر*خلال السنوات الأخيرة على وجه الخصوص، تكرّست ممارسات جديدة في الإدارة العامة بات يعرفها الكلّ، تناولت استخدام المسؤولين للإدارات العامة ومؤسسات الدولة للنيل من الخصوم السياسيين. كان هذا الأمر جديداً بمعنى أنه اتخذ طابعاً منهجياً. البعض يقول إنه اندرج ضمن إطار سياسة مرسومة، أو أجندة قيد التنفيذ، ترمي إلى زرع شروط الحرب الأهلية. أصبح الاستفزاز للآخر هو ما يملي التصريح الذي يُدلى به أو القرار الذي يعتمد.
أدى ذلك إلى شرذمة إضافية لمؤسسات الدولة. فُرض على هذه الأخيرة نوع من الاصطفاف جعلها بالضرورة في خانة أو معسكر أحد طرفي المواجهة الداخلية. مثّل هذا التطور انهياراً إضافياً لدولة هي فاشلة في الأساس، وأضاف إلى معاناة الناس الاعتيادية منها، إذ تحقق البعض منهم بالملموس أنها باتت خصماً مباشراً لهم.
العدوى انتقلت إلى البلديات التي تشهد حمى التحضير للانتخابات. يحاول المعنيون توظيف كل إمكانية لتسويق أنفسهم في معسكرهم وللنيل من الآخرين. لم يعد هؤلاء يتعاطون مع الناس كمواطنين متساوين. يحكم اصطفافهم تصرفاتهم، ويحكم علاقتهم بالقاطنين في نطاقهم. يأخذون بالطريقة التي اعتمدها المسؤولون خلال السنوات المنصرمة: استخدام الموقع العام والإدارة العامة للكيد للآخرين. وهم يمتنعون عن إعطاء الناس حقوقهم، ويتحيزون ضد أناس بعينهم.

تتخذ «المرجلة» شكل حجب حقوق للناس يمنحهم إيّاها القانون، والتصرّف بها كمنّة

ينطلق هذا الوصف من معاينة أداء بعض البلديات. يتقدم المواطن بطلب للحصول على تصريح أو لإجراء معاملة، فيُتجاهل ويبقى أشهراً في انتظار جواب. يتحقق الناس أن كراماتهم معرّضة للامتهان بمجرد دخولهم في علاقة معها. يشعرون أن هذه البلديات تريد أن تستعديهم هكذا لوجه الله، وأن تنال من الاحترام المتوجب لهم من دون سبب. ولا يعرفون كيف ينأون بأنفسهم عن الممارسات القائمة على الإقلال من الاحترام لهم. بل يبدو كما لو أن ثمة مايسترو يقول للمعنيين إن الامتهان الذي يعرّضون الناس له سيذهب في ذقون هؤلاء، وأن فاعليه لن يتعرضوا لمحاسبة.
لإسهام مايكل جونسون في قراءة لبنان سياسة ومجتمعاً أهمية كبيرة في فهم واقعنا. استخدم التعبير بالإنكليزية Men of Honour لتعريف السياسيين بوصفهم «أناساً يفرضون أنفسهم بالقوة». واعتمد التعبير ذاته لتوصيف عموم الناس، لكن هذه المرّة بمعنى أنهم «أناس ينشدون الاحترام».
وبقدر ما تبدو عملية فرض النفس بالقوة على الناس صنواً للممارسة اليومية للسياسة في لبنان، بقدر ما تبدو المدخل الذي لا يرى أفضل منه، الآتون إلى العمل العام. تتخذ «المرجلة» شكل حجب حقوق للناس يمنحهم إياها القانون، والتصرّف بها كمنّة، أو كوسيلة لإذلال صاحب الحاجة، أو لمجرد تحدي الآخر. يمتلئ تحقيق الكاتب الصحافي غسان سعود المنشور في صحيفة الأخبار في 13 آب الجاري، بوصف لأشكال التسلّط وعناصره الذي يمارس على المستوى المحلي. من هذه العناصر لا أقلها، «الجرأة في الابتزاز» التي يتكشّف عنها المعنيون. في دولة تحترم نفسها، وعند شعب يحترم نفسه ويفهم المشاركة السياسية إعلاءً لحقوق أفراده كمواطنين، يعتبر نص كهذا إخباراً برسم القضاء.
تبدو مناطق تفاخر أو تدّعي أنها تحوي الشرائح الاجتماعية الأكثر تعليماً وثقافة ورقياً، الأكثر تعرضاً لهذه الممارسات. ويبدو قاطنوها الأكثر ذلاً في علاقاتهم مع المتنفذين. لا يرى أهلها من ممثليهم، ممن يفترض أنهم معنيون بالدفاع عن حقوقهم وإرساء دولة القانون، إلا نضالات من أجل الاستيزار.
أسوأ ما كان في حقبة الوصاية السورية، ليس تجبّر العسكريين وليس تسلّط الأمنيين على الناس. أسوأ ما كان فيها، فلتان محمييها من السياسيين على الناس، واستغلالهم بدون حرج أو وازع ضمير، لما أورثته حقبة الحرب الأهلية لهذا الشعب المنكوب من خوف وذل وانسحاب من الحياة العامة.
تريدون حرية واستقلالاً. هذا هو الاستقلال: أن يستفرد بكم المتسلطون المحليون، ويجعلوكم تلزمون جحوركم كحيوانات خائفة.
* أستاذ جامعي