ناهض حتر*شنّت أوساط الحكم في الأردن، خلال الشهر الماضي، حملة واسعة لتأكيد «الوحدة الوطنية» مقترنة بالتهديدات، بهدف وقف السجال بشأن قضية توطين اللاجئين الفلسطينيّين والاستحقاقات السياسية المرتبطة بها. ينبغي الاعتراف، أولاً، بأن القسم الأساسي من ذلك السجال كان ولا يزال عدوانياً ويفتقر إلى العقلانية أو السعي الجدي إلى التوصّل إلى الحلول الوسط التي لا مناص منها لتلافي المآل الكارثي لصدام أهلي سوف يسمح لإسرائيل والقوى الإقليمية بالتدخل المنفلت في بلد مفكّك.
إلا أن مساعي منع السجال، سواء بالهجوم الإعلامي أو بالتهديد الأمني أو بالتبشير العاطفي، لا تؤدي فعلياً إلى وقفه، بل إلى تعميق لاعقلانيته وعدوانيته، وخصوصاً أن السياسة الرسمية تصمت عن خياراتها الاستراتيجية إزاء قضايا الحل النهائي للقضية الفلسطينية.
يفهم النشطاء وقادة الرأي في الأردن شعار «الوحدة الوطنية» الرسمي بوصفه مساوياً للتوطين. ولذلك يدعمه أنصار التوطين ويفسّرونه بلا لبس على هذا الأساس، بينما يصل الأمر بمعارضي التوطين إلى رفضه.
لا تزال المعالجات الرسمية لمشكلة الانقسام الأهلي، تقوم على أولوية تنفيذ المشروع الأميركي ـــــ الصهيوني لتصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن، وتأجيل الاستحقاقات الوطنية لكي تحل نفسها بنفسها على أساس اعتقاد ساذج بأنه يمكن، في النهاية، استخدام الرشى والقمع معاً لفرض الأمر الواقع المصمّم من جانب واشنطن وتل أبيب والفئات الكمبرادورية.
لكن مشكلة الانقسام الأهلي في الأردن مشكلة حقيقية متعددة الأبعاد، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وأمنياً. وهي أبعاد حاضرة في الراهن وتشل التنمية والديموقراطية والتحديث والثقافة، وتنزل بالقوى الاجتماعية إلى الاصطفاف في عصبيّتين رثّتين، تتجاهلان، بدورهما، حقيقتين لا بد من مواجهتهما وهما:
1) أن مستقبل البلد كله مرتبط ببناء قدرة دفاعية وتصميم سياسات في مواجهة لا مفر منها مع التوسعية الإسرائيلية.
2) أن للأغلبية الشعبية في البلاد، بغضّ النظر عن أصولها، قضية مشتركة أخرى، هي قضية التنمية المضادة للكمبرادورية والفساد والأمركة، وفي تنظيم قواها في منظمات نقابية وسياسية قادرة على الدفاع عن مصالحها. أول نقطة منهجية ينبغي تسجيلها من أجل تنظيم السجال هي ضرورة الفصل بين مشكلة الانقسام الأهلي من جهة، ومشكلات «الحل النهائي» للقضية الفلسطينية من جهة

لا يمكن تحقيق الصهر الوطني من دون إعادة الاعتبار إلى السياسة كتعبير عن الحداثة

أخرى. وهذا يعني أنّ علينا أولاً التوقّف عن تأجيل البحث عن حل للمشكلة الأولى بأبعادها المتعددة، وعلينا ثانياً بناء تصور مشترك لهذا الحل يقوم على أساس أولوية المصالح الوطنية المحلية لا على أساس أولوية تسهيل ما يسمّى العملية السلمية.
على هذه الخلفية، يمكننا تسجيل النقطة المنهجية الثانية اللازمة لهيكلة الحوار، وهي أنه لا مناص أمام طرفي المعادلة الأردنية من اعتماد مبدأ الحلول الوسط أساساً لبناء وحدة وطنية حقيقية وفاعلة، لا بد من النظر إليها بوصفها سياقاً اجتماعياً ـــــ سياسياً، لا معطىً مسبّقاً.
هنا، تكون البداية الوحيدة الواقعية لبناء نموذج وطني لتجاوز الانقسام الأهلي، هي الاعتراف المتبادل بحقيقتين هما:
أولاً، أن البنية الأردنية في كل الأحوال لا تستطيع أن تحتمل الاستيعاب الديموغرافي والسياسي لأكثرية فلسطينية. وعلى الجبهة المتكوّنة من نخب الحكم ونخب فلسطينيي الأردن أن تفهم أنْ لا مناص من:
1) تنظيم المواطنة بحيث تنتهي كل أشكال العلاقات المواطنية الغامضة مع الضفة الغربية، مرة واحدة ونهائية، وأن السعي إلى توطين مليون مواطن فلسطيني جديد في البلاد هو سعي غير واقعي وتفجيري.
2) أولوية العمل الجدي، ضمن سياسة معلنة على كل مستوى، لضمان حق العودة للنازحين وفق قرار مجلس الأمن 242.
3) تأكيد ضمان حق العودة كسياسة رسمية.
ثانياً، أن قسماً ـــــ ينبغي تحديده بوضوح ولكن بتسامح ـــــ من فلسطينيي الأردن أصبح، بحكم عوامل اجتماعية وسياسية وحقوقية وثقافية، جزءاً لا يتجزّأ من الشعب الأردني. وعلى النخب الأردنية القبول الواعي والمرحّب بهذا التكوين الأساسي للوطنية الأردنية.
ونحن، هنا، نقترح نموذجاً أولياً لمعايير الاندماج تشتمل على:
1) الفلسطيني، لاجئاً أو نازحاً، ممن خدم في أجهزة الدولة الأردنية المدنية والعسكرية والمؤسسات العامة وتقاعد. 2) الفلسطيني، لاجئاً أو نازحاً، من أبناء العشائر والعائلات المترابطة تاريخياً وقبلياً عبر الضفتين. 3) زوجات الأردنيين وأزواج الأردنيات من دون تمييز. 4) الفعاليات المندرجة نهائياً في الحياة الاقتصادية والمهنية والاجتماعية والثقافية والنقابية والسياسية الأردنية، وغير المرتبطة بالقوى السياسية الفلسطينية. 5) الحالات الخاصة.
وتقديرنا الأوّلي لفلسطينيي الأصل الذين تنطبق عليهم هذه المعايير ينوف على المليون، يمثّلون ما نسبته حوالى 25 بالمئة من إجمالي الأردنيين. وهذه النسبة التكوينية يمكن دمجها فعلياً. فإذا جرؤنا على هذا الحل التاريخي، بما في ذلك الفصل بين من هم فلسطينيّون تنطبق عليهم أحكام حق العودة، ومَن هم أردنيون من مختلف المنابت، سقط مشروع الوطن البديل. فادماج المليون فلسطيني المتأردنين نهائياً، حقاً وفعلاً، يصبح عملية وطنية داخلية، لا جزءاً من الحل النهائي لتصفية القضية الفلسطينية. كذلك فإنه يمكن عندها التحديد الفعلي لمشكلة النازحين واللاجئين في الأردن، والبدء بحملة سياسية ودبلوماسية للضغط نحو إعادتهم. ومفتاح هذه الحملة منح مَن تنطبق عليهم أحكام العودة الجنسية الفلسطينية بإجراء أحادي، في ما نسميه «العودة السياسية».
لكن القيام بهذ الخطوة التاريخية لا يمثّل بحدّ ذاته حلاً، بل يمثل الإطار الملائم لإعادة بناء الدولة الأردنية على أساس وحدة وطنية متماسكة، وفي عملية توحيد وطني جذرية متشعّبة المجالات السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تمثّل معاً مشروعاً وطنياً مشتركاً يستند إلى التراث الوطني الأردني.
لا يمكن تحقيق الصهر الوطني من دون إعادة الاعتبار إلى السياسة كتعبير عن الحداثة، أي كممارسة يستطيع من خلالها المواطن والمجتمع السيطرة على حياته وتطوّرها. الحداثة هي قدرة الفرد على المشاركة الفاعلة في تقرير مصيره ومصير مجتمعه وبلده في عملية ديموقراطية في سياق مشروع وطني ودولة وطنية.
يقتضي ذلك الحسم باتجاه الانتقال إلى الملكية الدستورية على مرحلتين، تجري في الأولى العودة إلى دستور 1952 وشطب جميع التعديلات المدخلة عليه لاحقاً، وتجري في الثانية زيادة صلاحيات الهيئات الدستورية (البرلمان والحكومة المركزية والقضاء) في ضمان كامل لاتخاذ القرارات بوسائل ديموقراطية.
يرافق ذلك، بطبيعة الحال، 1) إطلاق الحريات من دون تدخل المحافظين والأجهزة الأمنية، وتعديل جميع قوانين الحريات بما يتفق مع روح الدستور. 2) اعتماد قانون انتخابات تشريعية على أساس القائمة النسبية المطلقة في دائرة انتخابية وطنية واحدة، من دون المساس بنسب التمثيل الجغرافي والأقلوي. 3) حكومة برلمانية.
عندما تولّى مهاتير محمد رئاسة الوزراء في ماليزيا كانت تعوق خططه الإنمائية والاندماجية، انقسامات مريرة بين المالاويين الذين تتكوّن منهم نخب وكوادر وموظفو القطاع العام وضباط وجنود الجيش والأجهزة الأمنية والإعلامية، وبين الصينيين المسيطرين على السوق ويبرز من بينهم رجال الأعمال والموظفون والعمال المهرة، ويلتحق بهم وينافسهم الهنود من التجار التقليديين. وهذه اللوحة الديموغرافية ـــــ الاجتماعية شبيهة باللوحة الأردنية.
كان أمام مهاتير محمد خياران: الرضوخ لمطالب البورجوازية الصينية ذات الطابع الكمبرادوري لإدخال عناصر منها إلى المؤسسات الحكومية والعسكرية، وقد رفض هذا الخيار لأنه سوف يثير العناصر المالاوية التي تعدّ عماد عصبية الدولة من ناحية، ومن ناحية ثانية مخافة تعميق اللامساواة الاجتماعية لمصلحة الصينيين والهنود باكتسابهم الثروة والنفوذ الحكومي معاً على حساب المالاويين، مما يفجّر الأوضاع.
اختارت حكومة مهاتير محمد الخيار المضاد، أولاً لجهة تأكيد حضور المالاويين في الحكومة والجيش والقطاع العام، وثانياً تأكيداً للهوية المالاوية المحلية الإسلامية لماليزيا لا دمجها مع الصينية أو الهندية أو البحث عن هوية ثالثة.
من جهة أخرى، عملت الحكومة الماليزية على ابتعاث مجموعات من الشباب المالاوي وتدريبهم ودعمهم لكي يتحولوا إلى رجال أعمال وإداريين وعمال مهرة ودمجهم بالقطاع الخاص. وهكذا توصّل إلى قيام نخبة اقتصادية وطنية متعاضدة المصالح على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. وفي المقابل، تُركت العملية الديموقراطية تستوعب الصينيين والهنود بصورة تدريجية في أجهزة الدولة والقطاع العام.
هذه العملية لم تجرِ تحت الضغط والاستعجال والاصطناع، بل حفّزها مشروع اقتصادي وطني يتركّز على الصناعة. فالصناعة كعمود فقري للاقتصاد الوطني، تصنع الروابط بين الفئات الاجتماعية ومكوّنات الشعب. يفترض التصنيع سياقاً للتعاضد الوطني بين منتجي السلع المصنّعة والخدمات الصناعية والمهنية التي تصبّ جميعاً في سلعة صناعية قابلة للمنافسة الدولية. الصناعة تصنع الشعب الموحّد أيضاً.
المشروع الاقتصادي الوطني القائم على الحداثة وتطوير قوى الإنتاج، لا يمكن الشركات الخاصة أن تقوده. فهي، بنظرتها وارتباطاتها وطبيعة مصالحها، غير معنيّة بمشروع مجتمعي وطني، ما يفرض خيار قيادة القطاع العام المطلقة للعملية الاقتصادية، والسيطرة على العلاقات مع الخارج وإدماج الاستثمارات الأجنبية في الخطة الوطنية لا العكس.
وإذا كانت التجربة الماليزية شكت وتشكو من عيوب أساسية مثل السلطوية وضعف آليات العدالة الاجتماعية ووجود قطاعات كمبرادورية، وخصوصاً في القطاع المالي، كما ظهر في أزمة 1997، وهي مشكلات لا يمكن حلها إلا بالتغيير الاشتراكي، فإن الشيء الحاسم هو أن الانقسامات الاجتماعية لم تعد عمودية بصورة رئيسية، بل أفقية، بمعنى أنه ليس لها طابع انقسامي على المستوى الوطني. تمكّنت استراتيجية مهاتير محمد من توسيع وتعزيز ودمج الطبقة الوسطى على الصعيد الوطني، وتفعيل نخبة استطاعت قيادة عملية نمو واسعة النطاق وضعت البلد في الدرجة الـ14 على سلّم الاقتصاد العالمي.
وعلى المستوى الثقافي، جرى تعميم الثقافة المالاوية على الجميع باعتبارها أساس الثقافة الوطنية. وهو ما فرض نفسه على مناهج التعليم التي صُمّمت لتلبية احتياجات النمو الصناعي المتسارع.
ربما أصبح بإمكاننا الآن، اقتراح رؤوس الأقلام التالية بشأن العناصر المؤسسة للوحدة الوطنية في الأردن، وهي:
1) تعيين مَن هو الأردني بغض النظر عن الأصل والجنسية. وهي عملية تتطلّب تحديد معايير أوضحناها سابقاً، لها طابع اجتماعي وسياسي وثقافي وحقوقي، تمنح كل أولئك المعتبرين أردنيين عضوياً وضع المشاركة في دولة مواطنين حديثة،
2) اعتبار قضية العودة مركزية وتنفيذ العودة السياسية.
3) تأكيد الهوية العربية الأردنية الواحدة لجميع الأردنيين بغض النظر عن أصولهم وأديانهم.
4) الانتقال إلى الملكية الدستورية والإصلاح السياسي والديموقراطي والانتخابي الجذري على أساس وحدة الدائرة الانتخابية والحياة السياسية في البلاد، وخصوصاً إطلاق حرية التنظيم النقابي العمالي.
5) إدماج القوى العاملة المعطّلة من أبناء العشائر في العملية التنموية على كل المستويات القيادية والإدارية والمهنية والعمالية،
6) قيادة الدولة عبر القطاع العام الاقتصادي المحدّث للعملية الاقتصادية والاجتماعية، وإخضاع العلاقات الخارجية للمصالح الوطنية،
7) التركيز على بناء هيكل اقتصادي متعاضد بقيادة القطاع الصناعي، يشتمل على ثورة خضراء في المجال الزراعي والبيئي والمائي،
8) العمل المركّز على إحياء وتطوير العناصر الثقافية الوطنية والعروبية وتحريرها من الاستخدام السياسي الرسمي،
9) إعادة بناء المناهج التعليمية على أساس خدمة العملية التنموية الصناعية، وفي الوقت نفسه تعزيز الهوية الثقافية الوطنية،
10) العودة إلى نظام خدمة العلم على أن تكون لمدة سنتين كاملتين للذكور والإناث، تشمل التدريبات العسكرية والعمل التنموي ودروس الدمج الوطني.
11) إعادة الاعتبار إلى العقيدة الدفاعية المتجهة إلى حماية البلاد من العدوانية الإسرائيلية.
* كاتب وصحافي أردني