وائل عبد الفتاح


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

تبحث الدولة عن بطولة. هذا ما حدث في مصر حين رُويت قصة قهر القراصنة في الصومال على أنها بطولة أجهزة الدولة. وافقت الدولة على وضع اسم «الريس حسن» على عناوين بطولة تحرير الصيادين بعد أكثر من ٤٠ يوماً تحت الأسر. هذه ليست أول واقعة، فالدولة بحثت أيضاً عن بطولة في قصة رهائن صحراء الحدود بين مصر والسودان. تحدثت الرواية الرسمية عن فرقة «كوماندوس» نفذت عملية التحرير. روايات الرهائن في صحافة بلادهم كشفت عن رواية لا تظهر فيها أجهزة الدولة إلا في حالة اللوم والتقصير. هكذا أيضاً كشفت روايات الصيادين العائدين إلى قراهم أن عملية التحرير لم تستغرق سوى ١٥ دقيقة هاجموا فيها القراصنة بشجاعة الباحث عن أمل أخير... ويقين بأن يأتي الإنقاذ من الدولة أو من غيرها.
أرادت الدولة مصادرة بطولة الرهائن وتصورت أنها تحارب وحدها القراصنة، بينما هم بعيدون عن التوصيفات الأمنية، تركيبة تنتمي إلى مقابل الدولة الحديثة. تركيبة قديمة تعود لتهدّد العالم المنتظم في ماكيناته ونظامه البالغ التعقيد، الموصوم بازدواجية العدالة، والذي يقسّم العالم إلى ماكينة إنتاج كبيرة وسوق كبير.
عودة القراصنة كانت من بلاد تفككت فيها قشرة الدولة وعادت إلى تركيبات ما قبل الدولة. مصير تلعب عليه الدولة في العالم العربي... الدولة المستبدة طبعاً تحذّر من الوقوع في أسر القراصنة.
«الصوملة» مصير تحذيري لكل من يريد تفكيك الدولة... والقراصنة أيقونة رعب للخارجين عن «طاعة» الدولة المستبدة.
بقاء الدولة على استبدادها أصبح أمل ومنى العالم والشعوب التي تبشر بالرعب من كائنات ما قبل السياسة «المدنية»، مثل الأحزاب الدينية، بداية من جماعة الإخوان المسلمين وصعوداً إلى جماعات العنف التائبة ووريثتها في خلايا الإرهاب... وحدها تلك الكيانات تستعد لتكون بديلاً للدولة التي حرّرت الشعوب بثورات على الاستعمار والأنظمة العميلة له... لتحتل هي الشعوب، وتصادر إمكان الخروج من قبضة دولة التحرر الوطني.
ترسم الدولة لنفسها دور البطولة. وبعدما كانت رمز الوطنية، أصبحت هي الوطنية. وبعدما كانت تسعى إلى حكم الشعب، أصبحت هي الشعب. وبدلاً من أن تكون جسراً لدولة مدنية، اخترعت نوعاً مميزاً من «استبداد» يصبح أرحم من القفز خارج التاريخ السياسي.
العودة إلى حلم دولة الخلفاء الراشدين نكوص سياسي في مواجهة دولة تصفق لعملياتها وتعتبرها بطولات لا تمس... وهذا ليس جديداً، فالذاكرة تحمل قصة معركة تحرير الرهائن المصريين في قبرص عام ١٩٧٧ وهجوم «الكوماندوس» المصري على مطار لارنكا، وهي عملية راح ضحيتها عدد كبير من الرهائن.
استقبلت الدولة وصحافتها العائدين من لارنكا استقبال الأبطال... كما تخترع الآن أبطالاً خرافيين لتحرير رهائن القراصنة. حرب افتراضية تستعرض قوة الدولة وتمنح «الاستبداد» شرعية الوجود لمحاربة أشباح ما قبل الدولة.
الدولة في مصر أقوى، وأدخلت أشباحها في قمقم التوبة... لكن في اليمن مثلاً، تبدو المعركة مع الحوثيين أقرب إلى حرب شوارع بين الدولة وتكوينات ما قبل الدولة وربما ما قبل السياسة.
الدولة «المرتبكة» في العراق تحاول الدخول في اللعبة وتعلي من قيمة بديلها... جماعات المقاومة البدائية التي يقودها صدام حسين من قبره. رعب الدولة من صدام حسين يطيل عمرها كما يطيل الخصام مع «حماس» من عمر أبو مازن وسلطته ويطيل أيضاً من عمر «حماس» في قيادة غزة باعتبار أنّ بديلها أكثر رعباً.
هكذا تطارد الدولة «المدنية» أشباحها غير الشرعيين المنتمين إلى متحف الإنسانية السياسي. فما يريده نظام مبارك مثلاً، هو قطع خطوط الاتصال بين أميركا والإخوان المسلمين. ومن أجل ذلك، لا بدّ أن يضيف إلى أدواره مذاقات البطولة، وهذا تفسير لرغبة الرئيس مبارك في الكشف عن سر مشاركة الاستخبارات الألمانية في مفاوضات الإفراج عن شاليط.
الكشف تم بإحساس البحث عن بطولة لدولة ترى نفسها مهدّدة من خارجها وداخلها بتكوينات ما قبل الدولة. جماعات تعرّيها من شرعيتها الوطنية وتبقي لحمها على عظم الاستبداد فقط، وتدافع الدولة بأنها الشكل الوحيد القادر على الصمود في هجوم القراصنة.
مدير الاستخبارات عمر سليمان يسافر إلى إسرائيل ليقطع خطوة إضافية لتحرير «الجندي الإسرائيلي» جلعاد شاليط، وهو سياق عكسي، لكن الدولة في مصر تراه إنقاذاً لمسار السلام وفي خدمة القضية الفلسطينية.
هكذا دشّنت «عودة مبارك» مرحلة جديدة من القبول باستبداد الدولة، في مقابل عدم السقوط كلياً في فخ قراصنة (ما قبل الدولة).
الهروب من فخ إلى فخ، هو القدر السياسي لمجتمعات معطّلة تكره السياسة وتكتفي بشحنات العواطف ونبرات السخرية والشكوى... في انتظار بطولات تراوح بين اليأس والأمل، بين العجز والقوة، العاطفة والوعي... في انتظار لا يمنع من هبوط الدولة عليه لتتثاءب من غفوات شيخوختها الطويلة.